للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الوسائل المعينة على اكتساب المروءة]

يقول ابن حبان البستي رحمه الله: (الواجب على العاقل أن يلزم إقامة المروءة بما قدر عليه من الخصال المحمودة وترك الخلال المذمومة, وقد نبغت نابغة اتكلوا على آبائهم واتكلوا على أجدادهم في الذكر والمروءات وبعدوا عن القيام بإقامتها بأنفسهم, ولقد أنشدني منصور بن محمد في ذم من هذا نعته:

إن المروءة ليس يدركها امرؤ ... ورث المروءة عن أب فأضاعها

أمرته نفس بالدناءة والخنا ... ونهته عن طلب العلى فأطاعها

فإذا أصاب من الأمور عظيمة ... يبني الكريم بها المروءة باعها

... إلى أن قال رحمه الله: (ما رأيت أحدا أخسر صفقة ولا أظهر حسرة ولا أخيب قصدا ولا أقل رشدا ولا أحمق شعارا ولا أدنس دثاراً من المفتخر بالآباء الكرام وأخلاقهم الجسام مع تعريه عن سلوك أمثالهم وقصد أشباههم متوهما أنهم ارتفعوا بمن قبلهم وسادوا بمن تقدمهم وهيهات أنى يسود المرء على الحقيقة إلا بنفسه وأنى ينبل في الدارين إلا بكده) (١).

فإذا كانت المروءة لا تنال بالميراث ولا تنتقل عبر المورثات الجينية من الآباء إلى الأبناء فكيف ينالها الشخص وكيف يصل إليها؟

هناك وسائل تعين المرء إلى الوصول إلى المروءة المبتغاة نذكر بعضها فيما يلي:

أولاً: علو الهمة والتطلع إلى السمو بالنفس, والترقي بها إلى المعالي.

ثانياً: منافسة أصحاب المروءات ومسابقة أصحاب الأخلاق العالية وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين: ٢٦].

ثالثاً: ومما يعين على تحصيل المروءات شرف النفس واستعفافها ونزاهتها وصيانتها.

رابعاً: المال الصالح خير معين على بلوغ المروءات, قال أبو حاتم رحمه الله: ومن أحسن ما يستعين به المرء على إقامة مروءته المال الصالح ولقد أنشدني منصور بن محمد الكريزي:

احتل لنفسك أيها المحتال ... فمن المروءة أن يرى لك مال

كم ناطق وسط الرجال وإنما ... عنهم هناك تكلم الأموال

فالواجب على العاقل أن يقيم مروءته بما قدر عليه ولا سبيل إلى إقامة مروءته إلا باليسار من المال فمن رزق ذلك وضن بإنفاقه في إقامة مروءته فهو الذي خسر الدنيا والآخرة ولا آمن أن تفجأه المنية فتسلبه عما ملك كريها وتودعه قبرا وحيدا ثم يرث المال بعد من يأكله ولا يحمده وينفقه ولا يشكره فأي ندامة تشبه هذه وأي حسرة تزيد عليها (٢).

ولذا قال بعض العرب: (المروءة طعام مأكول, ونائل مبذول, وبشر مقبول, وكلام معسول) وقيل: (لا مروءة لمقل) وقال بعضهم: (المال والمروءة رضيعا لبان, وشريكا عنان, وغزيا حصان, وفرسا رهان)) وقال بعضهم: (لا مروءة إلا بالمال والفعال) ورفع إلى المنصور كثرة نفقات محمد بن سليمان (والي البصرة) فوقع: (أعظم الناس مروءة أكثرهم مؤنة) (٣)

خامساً: ومما يعين على تحصيل المروءة اختيار الزوجة الصالحة ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) (٤).

قال مسلمة بن عبد الملك: (ما أعان على مروءة المرء كالمرأة الصالحة)

قال الشاعر:

إذا لم يكن في منزل المرء حرة ... مدبرة ضاعت مروءة داره

سادساً: ومما يعين على المروءة مجالسة أهل المروءات ومجانبة السفهاء وأهل السوء.

أسند ابن حبان عن بعضهم قال: (كان يقال مجالسة أهل الديانة تجلو عن القلب صدأ الذنوب ومجالسة ذوي المروءات تدل على مكارم الأخلاق ومجالسة العلماء تذكي القلوب) (٥).

ومتى جالس المرء أهل المروءات اكتسب منهم صالح الأخلاق والصفات: قال ابن عبد البر: (فلا تكاد تجد حسن الخلق إلا ذا مروءة وصبر) (٦).

وكذلك إن عاشر المرء إخوان السوء وقليلي المروءة أخذ عنهم أخلاقهم وكان ذلك سبباً في القدح بمروءته: قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: (آفة المروءة إخوان السوء) (٧).


(١) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) (ص٢٣٠).
(٢) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) (ص٢٣٣).
(٣) ((عين الأدب والسياسة)) (ص١٤٢ - ١٤٣).
(٤) رواه البخاري (٥٠٩٠) ومسلم (١٤٦٦).
(٥) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) (ص٢٣٤).
(٦) ((الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار)) (٥/ ١٠٥).
(٧) ((المروءة)) للمرزبان (ص١١٧)، و ((روضة العقلاء)) لابن حبان (٢٣٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>