للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[آثار ومضار الغضب]

لا شك أن الغضب له آثار سيئة على نفس الغاضب في مظهره، وفي لسانه بأن ينطق كل قبيح، وله آثاره السيئة على المجتمع الذي من حوله:

(ومن آثار هذا الغضب في الظاهر تغير اللون، وشدة رعدة الأطراف، وخروج الأفعال عن الانتظام، واضطراب الحركة والكلام حتى يظهر الزبد على الأشداق وتشتد حمرة الأحداق وتنقلب المناخر وتستحيل الخلقة، ولو يرى الغضبان في حال غضبه صورة نفسه لسكن غضبه حياء من قبح صورته لاستحالة خلقته، وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره، فإن الظاهر عنوان الباطن إذ قبح ذاك إنما نشأ عن قبح هذا فتغير الظاهر ثمرة تغير الباطن هذا أثره في الجسد.

وأما أثره في اللسان؛ فانطلاقه بالقبائح كالشتم والفحش وغيرهما مما يستحي منه ذوو العقول مطلقا، وقائله عند فتور غضبه على أنه لا ينتظم كلامه، بل يتخبط نظمه ويضطرب لفظه

وأما أثره في الأعضاء، فالضرب فما فوقه إلى القتل عند التمكن فإن عجز عن التشفي رجع غضبه عليه فمزق ثوبه وضرب نفسه وغيره حتى الحيوان والجماد - بالكسر - وغيره، وعدا عدو الواله السكران والمجنون الحيران، وربما سقط وعجز عن الحركة واعتراه مثل الغشية لشدة استيلاء الغضب عليه.

وأما أثره في القلب، فالحقد على المغضوب عليه وحسده، وإظهار الشماتة بمساءته، والحزن بسروره، والعزم على إفشاء سره وهتك ستره والاستهزاء به وغير ذلك من القبائح) (١).

قال الراغب: (واعلم أن نار الغضب متى كانت عنيفة تأججت واضطرمت واحتد منه غليان الدم في القلب وملأت الشرايين والدماغ دخاناً مظلماً مضطرما يسود منه مجال العقل ويضعف به فعله، فكما أن الكهف الضيق إذا ملئ حريقاً اختنق فيه الدخان واللهب وعلا منه الأجيج فيصعب علاجه وإطفاؤه ويصير كل ما يدنو منه مادة تقويه. فكذلك النفس إذا اشتعلت غضباً عميت عن الرشد، وصمت عن الموعظة، فتصير مواعظه مادة لغضبه، ولهذا حكى عن إبليس لعنه الله أنه يقول: متى أعجزني ابن آدم فلن يعجزني إذا غضب لأنه ينقاد لي فيما أبتغيه منه، ويعمل بما أريده وأرتضيه. وقد قيل الغضب جنون ساعة وربما أفضى إلى تلف باختناق حرارة القلب فيه وربما كان سبباً لأمراض صعبة مؤدية إلى التلف) (٢).

وقال ابن رجب: (وينشأ من ذلك كثيرٌ من الأفعال المحرمة كالقتل والضربِ وأنواعِ الظلم والعُدوان، وكثيرٍ من الأقوال المحرَّمة كالقذفِ والسبِّ والفحش، وربما ارتقى إلى درجة الكفر، كما جرى لجبلة بن الأيهم (٣)، وكالأيمان التي لا يجوزُ التزامُها شرعاً، وكطلاق الزوجة الذي يُعقب الندمَ) (٤).

وقال أبو حاتم: (وسرعة الغضب أنكى في العاقل من النار في يبس العوسج؛ لأن من غضب زايله عقله، فقال ما سوَّلت له نفسه، وعمل ما شانه وأرداه) (٥).

وقال ابن مسكويه: (فإن صاحب هذا الخلق الذي ذممناه تصدر عنه أفعال رديئة كثيرة يجور فيها على نفسه ثم على إخوانه ثم على الأقرب فالأقرب من معامليه حتى ينتهي إلى عبيده وإلى حرمه فيكون عليهم سوط عذاب ولا يقيلهم عثرة ولا يرحم لهم عبرة وإن كانوا برآء من الذنوب غير مجترمين ولا مكتسبين سواء بل يتجرم عليهم ويهيج من أدنى سبب يجد به طريقا إليهم حتى يبسط لسانه ويده وهم لا يمتنعون منه ولا يتجاسرون على رده عن أنفسهم بل يذعنون له ويقرون بذنوب لم يقترفوها استكفافا لشره وتسكينا لغضبه وهو مع ذلك مستمر على طريقته لا يكف يدا ولا لسانا وربما تجاوز في هذه المعاملة الناس إلى البهائم التي لا تعقل وإلى الأواني التي لا تحس. فإن صاحب هذا الخلق الرديء ... ربما عض القفل إذا تعسر عليه وكسر الآنية التي لا يجد فيها طاعة لأمره.

وهذا النوع من رداءة الخلق مشهور في كثير من الجهال يستعملونه في الثوب والزجاج والحديد وسائر الآلات.) (٦).


(١) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (١/ ٩٥) بتصرف.
(٢) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص ٣٤٥).
(٣) هو ابن الحارث بن أبي شعر، واسمه المنذر بن الحارث، روي في أحاديث دخل بعضها في بعض، قالوا: وكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جبلة بن الأيهم ملك غسان يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهدى له هدية، ثم لم يزل مسلماً حتى كان زمن عمر بن الخطاب، فبينا هو في سوق دمشق إذ وطئ رجلاً من مزينة، فوثب المزني فلطمه، فأخذ فانطلق به إلى أبي عبيدة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم جبلة. قال: فليلطمه. قالوا: أو ما يقتل؟ قال: لا، فقالوا: أفما تقطع يده؟ قال: لا، إنَّما أمر الله بالقود، قال جبلة: أترون أني جاعل وجهي نداً لوجه جدي جاء من عمق؟ بئس الدين هذا! ثم ارتد نصرانياً، وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم. انظر: (تاريخ دمشق ١١/ ١٩)
(٤) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (١/ ٣٦٩)
(٥) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص ١٣٨).
(٦) ((تهذيب الأخلاق)) لابن مسكويه (ص١٦٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>