للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[خامسا: الجذور الفكرية والعقائدية]

كانت العقلانية اليونانية لوناً من عبادة العقل وتأليهه وإعطائه حجماً أكبر بكثير من حقيقته. كما كانت في الوقت نفسه لوناً من تحويل الوجد إلى قضايا تجريدية.

وفي القرون الوسطى سيطرت الكنيسة على الفلسفة الأوروبية، حيث سخَّرت العقل لإخراج تحريفها للوحي الإلهي في فلسفة عقلية مسلَّمة لا يقبل مناقشتها.

وفي ظل الإرهاب الفكري الذي مارسته الكنيسة انكمش نشاط العقل الأوروبي، وانحصر فيما تمليه الكنيسة والمجامع المقدسة، واستمرت على ذلك عشرة قرون.

وفي عصر النهضة، ونتيجة احتكاك أوروبا بالمسلمين – في الحروب الصليبية والاتصال بمراكز الثقافة في الأندلس وصقلية والشمال الإفريقي – أصبح العقل الأوربي في شوق شديد لاسترداد حريته في التفكير، ولكنه عاد إلى الجاهلية الإغريقية ونفر من الدين الكنسي، وسخَّر العقل للبعد عن الله، وأصبح التفكير الحر معناه الإلحاد، وذلك أن التفكير الديني معناه عندهم الخضوع للفقيد الذي قيدت به الكنيسة العقل وحجرت عليه أن يفكر.

حقيقة العقل

لا يعلم حقيقة العقل وماهيته ومكانه إلا الذي خلقه وحده ومهما قيل في شأنه من استنتاجات فإنما هي في الحقيقة تخرصات لا قيمة لها.

وهو أكبر النعم التي أنعم الله بها على الإنسان وسائر المخلوقات التي ركبه فيها.

وهو الحد الفاصل بين الإنسان وبين البهيمة وبين تصرفات العقلاء وتصرفات المجانين وبين تصرفات الجادين وتصرفات العابثين.

ثناء الله تعالى على العقل

وردت آيات كثيرة في كتاب الله تعالى تمدح العقل والتعقل وتذم الجهل والحمق وتوجب على أصحاب العقول أن يشكروا الله تعالى على هذه النعمة كما تجب عليهم أن يستفيدوا منه لينير لهم الطريق فقد جعله الله هاديا ومرشدا أمينا ومساعدا لصاحبه في هذه الحياة المعقدة وقد جاء ذكره في القرآن الكريم على نواح مختلفة.

١ـ فبعض الآيات ورد فيها ذم من يقدم على ما لا يليق مهملا عقله مقدما هواه.

قال تعالى في ذم أهل الكتاب حينما يأمرون الناس بالبر ولا يفعلونه أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [البقرة:٤٤]

وهذا الاستفهام الإنكاري تجده في آيات كثيرة يخبر سبحانه وتعالى بالأمر ثم يقول: أَفَلاَ تَعْقِلُونَ؟ مما يدل لحكم الهوى والجهل.

٢ـ وبعض الآيات ورد فيها التعليل لما يفعله الله تعالى حسب مشيئته لكي يزداد العقل الإنساني معرفة وعلما.

فقال تعالى في بيان نعمته على عباده ببيان الآيات وجعلها واضحة مفهومة المعنى لكي تعم بها الفائدة: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الحديد:١٧] وغيرها من الآيات التي تدل على مثل هذا السياق.

٣ـ وبعض الآيات فيها مدح الذين يعقلون ويفهمون قال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:٤٣]

٤ـ وبعض الآيات فيها الإخبار بأن الذين لا يستفيدون من العقل ويعرضون عنه ويتبعون الهوى كأنهم في حكم فاقدي العقل.

قال تعالى: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إلى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ [المائدة:٥٨]

وورد مثل هذا الذم في حق المنافقين والذين يكذبون على الله والذين دخلوا جهنم حيث قالوا فيما أخبر الله عنهم: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:١٠]

وذم الأصنام والآلهة التي تعبد من دون الله .. إلى غير ذلك من الآيات التي وردت على نواح مختلفة في قضية العقل ووردت في السنة النبوية أحاديث كثيرة أيضا تدل على منزلة العقل والعقلاء.

<<  <  ج: ص:  >  >>