للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تاسعا: عقلانيون يتوبون قبل الموت!]

رغم فتنة العقلانية الساحرة التي تُخيل للمرء أنه سيستطيع من خلالها الوقوف على كثير من أسرار الخلق والوجود، وأنه من الممكن بواسطتها الاستغناء عن جميع أو كثير مما جاءت به الأديان من العبادات والسلوكيات.

رغم كل هذا، وأن المتابع لهذا السراب الخادع قلّما يعود إلى فطرته ويراجع دينه ويعلم حدود عقله المخلوق، إلا أن الله بحكمته ورحمته يجتبي بين الحين والآخر بعضاً من هؤلاء العقلانيين ويقذف نور الهداية في قلوبهم من جديد بعد أن يكونوا قد أمضوا شوطاً طويلاً في اللهاث خلف سراب العقلانية الذي يكتشفونه بهداية الله لهم أنه (سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً).

وإليك أخي القارئ مواقف لبعض هؤلاء العقلانيين قيدوا فيها خواطرهم عندما أراد الله لهم الهداية من جديد بعد رحلة مضنية خلف معقولاتهم.

هذه المواقف سجلها لنا السلف الصالح لنكون حذرين لا ننزلق فيما انزلق فيه الآخرون الذين ندموا على ما أضاعوه من ساعات عمرهم في تحصيل ما لا حاصل منه ..

فهذا الرازي مع سبقه في باب المعقول، وفرط ذكائه يشكو حيرته وعجزه فيقول:

نهاية إقدام العقول عقال ... وغاية سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

فكم قد رأينا في رجال ودولة ... فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا

وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فزالوا والجبال جبال

لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: الرحمن على العرش استوى [طه:٥]. إليه يصعد الكلم الطيب [فاطر: ١٠].

وأقرأ في النفي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: ١١]. وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه: ١١٠] ثم قال: "ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي" (١).

وقال الشهرستاني: "فقد أشار إليَّ من إشارته غنم، وطاعته حتم، أن أجمع له مشكلات الأصول، وأحل له ما انعقد من غوامضها على أرباب العقول لحسن ظنه بي أني وقفت على نهاية النظر، وفزت بغايات مطارح الفكر، ولعله استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم: لعمري":

لقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسَيَّرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعاً كف حائر ... على ذَقَن أو قارعاً سن نادم (٢)

وقال الجويني: "لقد خضت البحر الخضم وتركت أهل الإسلام وعلومهم وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لي، وها أنذا أموت على عقيدة أمي! "

وقال الخونجي: "اشهدوا عليّ أني أموت وما عرفت شيئاً إلا الممكن يفتقر إلى واجب ثم قال: والافتقار أمر عدمي، فلم أعرف شيئاً! "وقال آخر: "أكثر الناس شكاً عند الموت أصحاب الكلام. وقال آخر وقد نزلت به نازلة من سلطانه فاستغاث برب الفلاسفة فلم يغث قال: ثم استغثت برب الجهمية فلم يغثني، ثم استغثت برب القدرية فلم يغثني، ثم استغثت برب المعتزلة فلم يغثني. قال: فاستغثت برب العامة فأغاثني" (٣).

المصدر:نقض أصول العقلانيين لسليمان الخراشي - ص ٢٤٥


(١) قد كتب كثير من العلماء كتابات مفصلة للرد على هذه الأباطيل من ذلك ما كتبه الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية في كتابه ((حقيقة الإسلام وأصول الحكم)) وما كتبه الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر في كتابه ((نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم)) وكذلك ما كتبه الدكتور ضياء الدين الريس في كتابه ((الإسلام والخلافة في العصر الحديث)) وغيرهم كثيرون هذا وقد رجع خالد محمد خالد بعد ربع قرن من الزمن عن مقولته السابقة، لكنه مازال داعيا إلى الديمقراطية.
(٢) رجح الدكتور ضياء الدين الريس في كتابه ((الإسلام والخلافة في العصر الحديث)) أن ما كتبه علي عبد الرازق لم يكن سوى الترجمة العربية لما كتبه المستشرق مرجليوث الحاقد على الإسلام وأهله.
(٣) ([٢٦٩]) ((العرب والشرق الأوسط)) تعريف د. نبيل صبحي (ص١٧٩) ((عن فكرة القومية)) صالح العبود (ص ٣٦٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>