للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هناك على مقربة من الحدود الفاصلة بين مقاطعتي الجزائر وقسنطينة، قرية صغيرة من قرى بني منصور، تدعى "تيغيلتْ" تابعةً في التصرّف الاستبدادي لحوز (مايو) (١). طاف بأهلها منذ سنوات طائف من الشعور الديني، واخترقت آذانهم الأصوات المتعالية من جمعية العلماء في الدعوة إلى التعليم العربي، فأنكروا حالتهم وحالة أبنائهم من الجهل والأميّة، إذ كانوا محرومين من كل ما يسمّى تعليمًا، فأجمعوا أمرهم وكوّنوا جمعية، وأسّسوا كتّابًا لتعليم أبنائهم، على قدر حالهم، ومبلغ مالهم، واتصلوا بنا اتصال المسلم المسترشد، بأخيه المرشد. فعينّا لها معلمًا لم نأت به من مصر، ولا من العراق، بل من عمالة قسنطينة، وشرع في تعليم الأولاد تعليمًا ابتدائيًا بسيطًا ليس فيه كيفية تحطيم الذرّة، ولا كيفية تحضير القنبلة الذريّة؛ وإنما هو تعليم لأشكال الحروف العربية وتركيب الكلمات منها؛ وما مضت أسابيع حتى هاجت الحكومة وماجت، ونشط ممثّلها متصرف حوز "مايو" (٢) وأعوانه نشاطًا، ما نظنهم يبذلون معشاره في تتبع المجرمين وقطّاع الطرق ومحترفي السوق الأسود؛ واستدعى المعلم وأعضاءَ الجمعية إلى إدارته مرارًا، وأمرهم بإغلاق المدرسة، وطرد المعلم، وهدّدهم في كلامه بكل ما تمليه الغطرسة على جبار مستبد، ولما رأى أن كلامه لم يؤثّر التأثير الذي يرضي فرعونيته، وأن المعلم لم يذهب، وأن المدرسة لم تغلق- جلب الجميع بقوة "الجندرمة" (٣)، وأحالهم على دائرة البوليس السرّي متهمين بتهم لفّقها أعوانه- وهي تهم محضرة جاهزة في كل إدارة وبيد كل مدير، يستعملها كلما خانه القانون، وخذله الحق، فيرجع إلى تلك التهم لينتقم بها، فاستنطقهم البوليس السرّي لا باللسان بل بالعصا (والكرباج)، وأدخلهم السجن "رهن الاستنطاق" كما يقولون.

أما المعلم فقد نفاه حاكم (مايو) نفيًا شفويًّا، وهدّده- إن بقي في حوزه- بالعقوبات الرادعة وبإخراجه بقوة الجندرمة مشيًا على رجليه إلى بلاده (لأنه أجنبي) ... يعني أنه من قرية تسمّى (تاملوكة) تابعة لنانكين، من بلاد الصين، لا لقسنطينة. وكَذَبَ الجغرافيون ولو صدقوا ...

تعاقبت التحقيقات في هذه المسألة "الخطيرة"، فلمّا تمّت- وما كادت- أحيلت إلى قاضي الصلح بمايو، وحمل أولئك المساكين ثباتهم على دينهم، ورغبتهم في تعليم أولادهم، على أن ينفقوا النفقات، ويضحّوا بالمصالح، ويأتوا بالمحامين من الجزائر. ثم رفعت المسألة بعد حكم قاضي الصلح فيها إلى محكمة الاستئناف بالعاصمة، فتضاعفت على المساكين الأتعاب، وتعطّلت الأعمال، وانفتح عليهم بابٌ لا يسدّ من نفقات الذهاب


١) حَوْز "مايو": الحَوْز وحدة إدارية يسكنها فرنسيون وجزائريون. و"مايو" هي مدينة "مشَدَّالَة".
٢) اسم إفرنجي لقرية استعمارية واقعة في شرقي مقاطعة الجزائر في الحدود الداخلة بينها وبين مقاطعة قسنطينة.
٣) اسم للحرس الوطني الفرنسي، وهم أدوات الترويع، وزبانية الإرهاب للجزائريين.

<<  <  ج: ص:  >  >>