للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ربوهم على استخدام المواهب الفطرية من عقل وفكر وذهن، وعلى صدق التصور وصحة الإدراك ودقة الملاحظة والوقوف عند حدود الواقع.

هناك حدود مشتركة بين الضار والنافع من أعمالكم، فتبينوها ثم اعملوا على قدرها، ولا تجاوزوا حدًّا إلى حد، فتضروا من حيث قصدتم إلى النفع، فمدح المجتهد من تلامذتكم مذكٍ للنشاط، كما هو مدعاة إلى الغرور، والفصلُ بينهما رهينُ لفظة مدح مقدرة أو مبالغ فيها منكم؛ ولأن تخمدوا نشاطًا، خيرٌ من أن تُشعلوا غرورًا في نفس التلميذ، إن النشاط قد يعاود، ولكن الغرور لا يزايل، وإن الغرور لأعضلُ داء في عصركم، وإن صنفكم لأكثر الأصناف قابليةً لهذا الداء، لما فيه من إيهام بالكمال في موضع النقص، وتمويه للتخلف بالتقدم، وتغطية للسيّئ بالحسن، وهذه محسنات الغرور في نفوس المغرورين، والغرائز ضارية، والتجارب فضَّاحة، والصراع بينهما كان وما زال ولا يزول، فاحذروا الزّلة في هذا المزلق، وحذّروا تلامذتكم منها بالقول والعمل.

ربوهم على بناء الأمور على أسبابها، والنتائج على مقدماتها علمًا وعملًا، واعلموا أن العلم يبدأ مرحلته الأولى من هذه البسائط التي تقع عليها حواسكم في الحياة كل لحظة فتحتقرونها ولا تلقون لها بالًا، مع أن مجموعها هو العلم إذا وجد ذهنًا محللًا، وهو الحياة إذا وجدت عقلًا مفصّلًا.

بيّنوا لهم الحقائق، واقرنوا لهم الأشباه بالأشباه، واجمعوا النظائر إلى النظائر، وبيّنوا لهم العلل والأسباب، حتى تنبت في نفوسهم من الصغر ملكة التعليل، فإن الغفلة عن الأسباب هي إحدى المهلكات لأمتكم، وهي التي جرّت لها هذه الحيرة المستولية على شواعرها، وهذا التردد الضارب على عزائمها، وهذا الالتباس بين المتضادات في نظرها.

امزجوا لهم العلم بالحياة، والحياة بالعلم، يأتِ التركيب بعجيبة، ولا تعمروا أوقاتهم كلها بالقواعد، فإن العكوف على القواعد هو الذي صير علماءنا مثل "القواعد"، وإنما القواعد أساس، وإذا أنفقت الأعمار في القواعد فمتى يتمّ البناء؟

ربوهم على أن يعيشوا بالروح في ذلك الجو المشرق بالإسلام وآدابه وتاريخه ورجاله، ذلك الجو الذي يستوي ماضيه ومستقبله في أنهما طرفا حق لا يشوبه الباطل، وحاشيتا جديد لا يبليه الزمن، وعلى أن يعيشوا بالبدن في هذا الزمن الذي يدين بالقوة، ويُدلّ بالبأس، وعلى أن يعيشوا بالروح في ذلك الزمن المشرق العامر بالحق والخير والفضيلة، وعلى أن يلبسوا لبوس عصرهم الذي يبني الحياة على قاعدتين: "إن لم تكن آكلًا كنت مأكولًا"! و"كن قويًّا تحترم".

<<  <  ج: ص:  >  >>