للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عواقب سكوت علماء الدين عن الضلال في الدين *

للقوة والسلطان أثر في الأبدان، وأثر في الأرواح؛ وأقوى الأثرين تأثيرًا وأظهرهما وسمًا، وأبقاهما على المدى، ما كان في الأرواح، لأن التسلّط على الأبدان يأتي من طريق الرهبة، والرهبة عارض سريع الزوال، أما التسلّط على الأرواح فبابه الرغبة، والدافع إليه الاقتناع والاختيار.

ولعلماء الإسلام سلطان على الأرواح، مستمدّ من روحانية الدين الإسلامي وسهولة مدخله إلى النفوس: تخضع له العامة عن طواعية ورغبة، خضوعًا فطريًّا لا تكلّف فيه، لشعورها بأنهم المرجع في بيان الدين، وبأنهم لسانه المعبّر حقًّا عن حقائقه، والمبين لشرائعه، وبأنهم حُرّاسه المؤتمنون على بقائه، وبأنهم الورثة الحقيقيون لمقام النبوّة، وكان العلماء يجمعون بين وظيفة التبيين في التعبديات، وبين وظيفة التقنين في المعاملات؛ أما الخلفاء فلم تكن وظيفتهم- في الحقيقة- إلا التنفيذ لما يراه العلماء من مصلحة في المعاملات الفردية أو الاجتماعية.

كان هذا السلطان ظاهرًا على أشدّه، متجليًا في سطوعه في صدر الإسلام يوم كان العلماء قوّامين على الكتاب والسنّة، جارين على صراطهما، واقفين عند حدودهما، قائمين بفريضة الأمر بما عرفاه، والنهي عما أنكراه، لا يهدون الأمة إلا بهديهما، فكان سلطانهم نافذًا حتى على الخلفاء، وألسنتهم مبسوطة بالنقد والتجريح لكل من زاغ عن صراط الدين كائنًا من كان، وكان رأيهم هو المرجع في مصالح الدين والدنيا. لا جرم أن كان خلفاء الدنيا من معاوية وهلم جرًّا يعرفون لهم هذا السلطان الواسع، فيتّخذ منه الموفقون منهم عونًا على الخير والإصلاح فلا يقطعون دونهم رأيًا ولا حكمًا، ولا يتبرّم به المستبدّون منهم،


* نشرت في العدد ٣٦ من جريدة «البصائر»، ١٧ ماي سنة ١٩٤٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>