للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جُلْ ما شئت في عمالة وهران في النصف الأخير من الربيع، والنصف الأول من الخريف، فإنك تسمع في كل سوق أذانًا بزردة، وترى في كل طريق حركة إلى زردة، وركابًا تشد إلى وعدة.

وسرْ ما شئت في جميع الأوقات، وفي جميع طرق المواصلات ترَ القبابَ البيضاء لائحة في جميع الثنايا والآكام ورؤوس الجبال، وسلْ تجد القليل منها منسوبًا إلى معروف من أجداد القبائل، وتجد الأقلّ مجهولًا، والكثرة منسوبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني. واسأل الحقيقة تجبك عن نفسها بأن الكثير من هذه القباب إنما بناها المعمّرون الأوربيون في أطراف مزارعهم الواسعة، بعد ما عرفوا افتتان هؤلاء المجانين بالقباب، واحترامهم لها، وتقديسهم للشيخ عبد القادر الجيلاني، فعلوا ذلك لحماية مزارعهم من السرقة والإتلاف. فكل معمر يَبني قبة أو قبّتين من هذا النوع يأمن على مزارعه السرقة، ويستغني عن الحرّاس ونفقات الحراسة، ثم يترك لهؤلاء العميان- الذين خسروا دينهم ودنياهم- إقامة المواسم عليها في كل سنة، وإنفاق النفقات الطائلة في النذور لها وتعاهدها بالتبييض والإصلاح، وقد يحضر المعمر معهم الزردة، ويشاركهم في ذبح القرابين، ليقولوا عنه إنه محبّ في الأولياء خادم لهم، حتى إذا تمكّن من غرس هذه العقيدة في نفوسهم راغ عليهم نزغا للأرض من أيديهم، وإجلاء لهم عنها، وبهذه الوسيلة الشيطانية استولى المعمرون على تلك الأراضي الخصبة التي أحالوها إلى جنات، زيادة على الوسائل الكثيرة التى انتزعوا بها الأرض من أهلها.

وكأن هؤلاء القوم يعتقدون أن أرواح الأولياء كالثعابين والحيات، تتخذ من الحجارة المجموعة مقرًّا وملجأً، فكلّما وجدوا حجارة مجموعة اعتقدوا أنها مباءة لولي واتخذوها مزازًا. ولقد مررتُ في إحدى جولاتي في تلك المقاطعة بقطعة أرض موات، كأنها مقبرة أموات، مرصّعة بالحجارة، مغطاة بالسدر والدوم، تحفها قطع متجاورات، غُرست زيتونًا وكرومًا وفواكه شتّى، فكأن تلك القطعة من بينها جنة الرجاز التي تخيّلها أبو العلاء المعرّي في رسالة الغفران؛ فشهدت كل واحدة بصاحبها، ثم مررتُ بعد سنة بتلك القطعة، فدلّني تبدّل الأرض غير الأرض على أن صاحبها الأول قامت قيامته، ووجدت تلك الحجارة قد رُكمت على حافة الطريق، ثم مررت بها مرة أخرى في تلك السنة فإذا تلك الحجارة المركومة قد رشّت بالجير الأبيض، وإذا فيها كوى للبخور والشمع، قلت، سبحان من يحي قلوبًا ويميت قلوبًا، سبحان من جعل التوحيد مفتاح السعادة في الدارين.

ولقد ماتتْ هذه العوائد الشيطانية قبل الحرب الأخيرة أو كادت تموت، بتأثير الحركة الإصلاحية المطهّرة للعقائد، ثم قضي عليها بتأثّر الناس بالحرب ولأوائها، وقد عادت في السنتين الأخيرتين إلى ما كانت عليه، ودعا داعي الشيطان إليها فأسمع، وكأنّما أذن في

<<  <  ج: ص:  >  >>