للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما خمسة الدراهم، وخمسمائة درهم، فهي مال معدود، ولكنه لا يقتضي التحديد للأقل ولا للأكثر، وأما أجرة التعليم فهي مال، ولكنه مجهول في قضية الواهبة، وأما خاتم الحديد فليس بذي بال، وكيفما قدّرت قيمته كانت أقلّ مما جعله الأئمة حدًّا أدنى، ورأيُنا فيه، وفهمنا لحكمته أنه رمز نبوي بعيد المغزى، عالي الإشارة، إلى أن ما يفتتن به الناس بمقتضى طبيعتهم من اعتبار المال في الزواج ليس مقصدًا شرعيًّا، وإن أحقر شيء مما يُسمّى مالًا كافٍ فيه؛ أما القصد الحكيم فهو من وراء ذلك: هو في الإحصان، وقمع الغرائز الحيوانية، وسكون القلب إلى القلب، وتحقيق حكمة الله في التناسل وتسلسل النوع، إلى غير ذلك من الحكم التي ليس منها المال، وإنما المال هنا جاذب مادي موصل يسدّ رغبة سطحية، وما أغلى صداق الواهبة في حكم العقل، إذ سيق إليها علمًا بسور من القرآن يزكيها، لا دراهم معدودة يُفنيها إنفاق يوم أو يومين، ولو وجد ذلك الخاطب خاتمًا من حديد فأصدقها إياه لانتقلت الحكمة إلى باب آخر، وهو إنزال الناس منازلهم في الفقر والغنى بحيث يتزوّج كل واحد بما يملك.

وقضية الواهبة- على كل حال- قضية عين، لا تقوم بها حجة، زيادة عن كونها خرجت مخرج التفسير، في أسلوب بليغ من التعبير، ومعتاد في كلام من أوتي جوامع الكلم، كقوله في أحاديث الحث على الصدقة: "ولو بظلف محرق" "ولو بفِرْسِنِ شاة" "ولو بشق تمرة".

هذا ولا ننسى أننا نستروح من كلمة الطَّوْل الذي جعله الله موجبًا للانتقال من نكاح الحرائر إلى نكاح الإماء، أن الصداق مال له بال بالنسبة إلى أحوال الرجال.

...

والخلاصة أن الشريعة المطّهرة الحكيمة لم تحدّد في الصداق حدًّا أدنى، ولا حدًّا أعلى، لأن الناس طبقات، فقراء وأغنياء وبين ذلك، فإذا انساقوا بالفطرة القويمة، والشريعة الحكيمة، وجروا على منازلهم في المجتمع، صلح أمرهم واستقامت لهم الحياة، وإذا زاغوا عن الفطرة، وحادوا عن الشريعة، وخرجت كل طبقة عن مداها المقدّر لها، هلكوا وشقوا.

والدين إنما يخاطب المؤمنين به، المتّبعين لأحكامه، المتأدبين بآدابه، الواقفين عند حدوده، فإذا ترك الأمر مطلقًا كالصداق فإنما يفعل ذلك اعتمادًا على إيمانهم وأمانتهم، وعرفانهم لما تقتضيه مصلحتهم، واعتبارهم للحِكَم قبل الأحكام.

واذا صلح المجموع وكان بهذه المنزلة من فهم الدين ومعرفة مقاصده العامة، فبعيد أن يتورّط في العسر والإرهاق والحرج، وبعيد أن يتطاول الفقير إلى منزلة الغني فيقع الفساد في الأرض.

<<  <  ج: ص:  >  >>