للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نافذة لدولهم في جنب الشرق، وأدلاء بارعين على عورات الشرق، ومن هذه الطائفة صاحب فكرة "فرانس- إسلام".

من الطبيعي أن تكون أذهان هؤلاء المستشرقين المأجورين منصرفة إلى الاختراع كأذهان الكيماويين والميكانيكيين، وأن تكون هممهم متوجّهة إلى الاكتشاف كهمم الروّاد والفلكيين، ولكن هل يُكتب الخلودُ ورفع الذكر لمن اكتشف "وقف أبي مدين" في القدس كما كتبا لمن اكتشف أميركا ورأس الرجاء الصالح في الأرض، أو لمن اكتشف كواكب المجرّة في السماء؟

إن هذا الصنف من المستشرقين هم الذين سخروا العلم للسياسة، وهم الذين رضوا للعلم بالامتهان، وهم الذين لم يعتصموا بالاستقلال العلمي، فعصفت بهم الأهواء، فأصبحوا مبشّرين بالاستعمار، داعين إلى ضلاله، فهم غير أهل لاحترام العالم العلمي وإجلاله، وهم- من منازل الاعتبار- في المنزلة الدنيا بين ذوي الوظائف السياسية الرسمية، ولست أدري لماذا فوّتوا على أنفسهم أبّهة الوظيفة ومظاهرها؟ ...

...

كوّن هذا المستشرق لجنته في فرنسا التي هي أحد طرفي الاسم، وأوحى إلى المغرورين به في شمال أفريقيا ما أوحى، فإذا الدعاية قائمة، وإذا الاسم دائر على الألسنة، ولكن الأغراض غير محددة ولا مفهومة. وانتظر الناس الأعمال التي تفسّر المقاصد، والمقدّمات التي تشعر بالنتائج، فكانت المقدمات أحاديث ومناشير وبرقيات عن فلسطين، وعن قضية المشرّدين، وعن وقف أبي مدين (الجزائري) ثم انتقلت إلى "تدويل القدس"، وهنا فهم مَن لم يكن يفهم، وضاع الفهم ممن كان فاهمًا، أهذه "شكشوشة" (٢) أديان؟ فلماذا- إذن- ذكرت فرنسا في الاسم ولم تذكر المسيحية؟

...

ولم نجد في التاريخ قديمه وحديثه عالمًا غير مسلم حذق العربية فهمًا، وأتقنها حفظًا، وغاص على أسرارها، ولابست روحه روحها، ثم لم تهده إلى حقائق الإسلام، ولم تقف به على بابه، وأقلّ المراتب التي يضعه علمه الكامل بالعربية فيها أن يكون فيه صغو إلى الإسلام، وسير في اتجاهه، وتفتّح ذهن إلى فهمه، وبشاشة نفس مع أبنائه، كأنه يحسّ أنه


٢) شكشوكة: معناها خَليط. وأصلها أكلة تُصنع من خليط من الخُضَر.

<<  <  ج: ص:  >  >>