للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أسفر الانتخاب عن تقسيم فلسطين تحدّيًا للعرب وحقّهم، وللمسلمين ودينهم، فكان حظ اليهود منها- بغير انتخاب ولا قرعة- الجهات الخصبة، المتصلة بالعالم، القريبة من الصريخ، الموطأة الأكناف، المأمونة الأمداد والمرافق؛ وكان حظُّ العرب منها الجهات الرملية القاحلة والجبلية الجرداء، وكان حظ البيت المقدَّس ميراث النبوّة عن النبوّة أن يصبح إرثًا لأحفاد الصليبيين، وذِيدَ عنه الخصمان المحقّ والمبطل: فلا اليهود به فازوا، ولا العرب إيَّاه حازوا، وإنا لنعلم الاعتبارات التي بُني عليها هذا التقسيم، والمكائد التي انطوى عليها، والمقاصد التي رَمى إليها، وإنا لنعلم الدواعي التي حملت الناطقين على النطق والساكتين على السكوت. وإننا لا نغترُّ بما حاكوا وما لاكوا، ولا نرتد على أعقابنا بما حذَّروا وما أنذروا، ولا نعتبر الحياد إلا كيادًا، وإنَّنا نعتقد أنهم جميعًا سيذوقون وبالَ أمرهم، وأن مكرهم سيحيق بهم، وأن تشتيتهم لشمل فلسطين فاتحة لتشتيت شملهم، وأن النار التي أشعلوها في فلسطين ستلتهمهم جميعًا.

إيه يا فلسطين!! لقد كنت مباركةً على العرب في حاليْكِ! في ماضيك وفي حاضرك! كنتِ في ماضيك مباركةً على العرب يوم فتحوك فكمّلوا بك أجزاءَ جزيرتهم الطبيعيّة، وجمَّلوا بك تاج ملكهم الطريف، وأكملوا بحرمك المقدس حرميْهم، ويوم اتّخذوك ركابًا لفتوحاتهم، وبابًا لانتشار دينهم ومكارمهم ومرابطَ لحُماة الثغور منهم ... أنت عتبتهم إلى مصر، ومعبرهم إلى أفريقيا، ومنظرتهم إلى بحر العرب، لم تطأكِ بعد أقدام النبيين أطهرُ من أقدامهم، ولم يحمِك بعد موسى أشجعُ من أبطالهم ... وكنت مباركةً عليهم في حاضرك المشهود فما اجتمعتْ كلمتهم في يوم مثل ما اجتمعتْ في يوم تقسيمك، ولقد فرّقهم الاستعمار الخبيث في عهدهم الأخير، فما تنادَوْا إلى الاتحاد مثل ما تنادَوْا إلى الاتحاد في سبيلك، ولقد تخوّف أوطانهم من أطرافها، فما تداعوا إلى الذود عن قطعة من أرضهم مثل ما تداعوا إلى الذود عنك.

أما والله يا فلسطين، لكأنَّ أعداء العرب أحسَنوا إليهم بتقسيمك من حيث أرادوا الإساءة، ولكأنّ المصيبة فيك نعمة، ولكأنّهم امتحنوا بتقسيمك رجولتنا وإباءَنا ومبلغ التضحية بالعزيز الغالي فينا، ولكأنَّهم جسّوا بتقسيمك مواقع الكرامة والشرف منّا، وكأنّ كل صوت من أصواتهم على التقسيم صوت جهير ينادي العرب: أين أنتم؟ فلا زلتِ مباركةً على العرب يا فلسطين!

...

أيها العرب! قُسمت فلسطين فقامت قيامتكم ... هدرت شقائقُ الخطباء، وسالت أقلام الكتّاب، وأرسلها الشعراء صيحات مثيرةً تحرّك رواكدَ النفوس، وانعقدت المؤتمرات،

<<  <  ج: ص:  >  >>