للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم رجع الشاب إلى دمشق فأخبر الأستاذ عني بمثل ما أخبرني عنه، فتمّ التجاوب الروحاني بيننا، وتنادت الروابط الفكرية إلى الاجتماع فكان.

ولما دخلت دمشق بعد ذلك بقليل، كان أول من زارني- بعد كرام الجالية الجزائرية- من أصدقائي السوريين الذين عرفوني بالمدينة المنوّرة: الأستاذ عبد القادر الخطيب المظفر، وذلك الشاب المارديني الذي أنساني الزمان اسمه وإن لم لينسني ذكراه، فكاد يطير فرحًا بمقدمي، وطار إلى أبناء المشرب، كما كان يسمّيهم، يؤذن فيهم بزيارتي فزاروني لأول مرة في رهط أذكر منهم شيخ الجماعة الأستاذ البيطار، والأستاذ عبد الحكيم الطرابلسي، والأستاذ جودت المارديني، والأستاذان قاسم ورضا القاسميين والأستاذ سعيد الغزي، والأستاذ عبد القادر المبارك، وكان بيننا في لحظة ما يكون بين إخوان الصفا وإخوان الصبا من تأكُّد المحبة وارتفاع الكلفة وسقوط التحفّظ. ثم تعاقبت الاجتماعات وانتظمت، واتّسقت أسباب اللقاء، واتّسعت آفاق البحث في الأسمار، وكثُر الصحب، وما منهم إلا السابق المغبر، والكاتب المحبر، واللسِن المعبّر، فكنّا لا نفترق من اجتماع إلا على موعد لاجتماع، وكان واسطة العقد في تلك المجالس الأستاذ الجليل والأخ الوفي الشيخ الأستاذ محمد الخضر حسين مدّ الله في حياته. ولقد أقمت بين أولئك الصحب الكرام أربع سنين إلا قليلًا، فأشهدُ صادقًا أنها هي الواحة الخضراء في حياتي المجدبة، وأنها هي الجزء العامر، في عمري الغامر؛ وأني كنت فيها أقرّ عينًا وأسعد حالًا من ذلك الذي نزل على آل المهلب شاتيًا، فوجد الإدبار رائحًا والإقبال آليًا. ولا أكذب الله، فأنا قرير العين بأعمالي العلمية بهذا الوطن (الجزائر)، ولكن ... من لي فيه بصدر رحب، وصحب كأولئك الصحب؟

إن نسيت فلن أنسى ساعات كنت قضيتها في مكتبة آل القاسمي ممتعًا عيني وذهني في مخطوطات جمال الدين، ومسودات مباحثه في التفسير والحديث، وفي ذلك المخطوط الحافل الذي ما رأت عيني مثله في موضوعه، وهو كتاب "بدائع الغرف، في الصنائع والحِرف" لجدّه الشيخ محمد سعيد الحلّاق، أرّخ فيه لصناعات دمشق الجليلة التي أخنى الزمان على أكثرها، وجلا فيه صفحات من مجدها الصناعي البائد.

ويا رعى الله عهد دمشق الفيحاء وجادتها الهوامع وسقت، وأفرغت فيها ما وسقت. وخصّت بالمثقلات الدوالح مجامع الأحباب، وأندية الأصحاب، من الصالحية والجسر والنير بين المزة والربوة. فكم كانت لنا فيها من مجالس، نتناقل فيها الأدب، ونتجاذب أطراف الأحاديث العلمية، على ود أصفى من بردى تصفق بالرحيق السلسل، ووفاء أثبت من أواسي قاسيون، وأرسى من ثهلان ذي الهضبات. لا توبَن في مجالسنا حرمة، ولا يُكلم عرض، ولا يقارف مأثم. وإنما هو الأدب، بلا جدب، نهصر أفنانه، والعلم، بلا ظلم،

<<  <  ج: ص:  >  >>