للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أيها الإخوة الأعزاء،

إن مجلى العبرة في هذا الحديث أن جمعية العلماء إن استطاعت أن تكوّن جمهورًا علميًا يفهم العربية الفصحى بالسماع كما يفهم الفرنسية بالسماع، فقد استطاعت أن تأتي بأعجوبة الدهر وأن تفتح للعلم طريقًا غير طريق الكتابة، وأن تعيد للعربية معجزتها الأولى وهي تفتق الأمية عن الحكمة في العرب.

أيها الإخوة الأعزّاء،

هذه الظواهر التي أطلنا القول فيها كلها من آثار ميزة الاستدلال وآثار الشيء تابعة له، فنحن لم نخرج عن موضوعنا: عرض الحالة العلمية.

ومن أكبر الميزات التي يمتاز بها هذا الطور العلمي الذي نحن فيه العمل والإنتاج والدخول في الميادين العامة والتغلغل في شؤون الحياة، فقد كان الناس بهذا الوطن إلى ما يتصل بالنهضة لا يعرفون من العَالِمِ إلا رجلًا منعزلًا عن العالم. لا همّ له إلّا- بما يتصل بمعيشته، وأكبر أمره بينهم أن يفتيهم في المسائل الجزئية التي لا تتجاوز واحدًا كمسائل الصلاة والصوم أو اثنين كأحكام النكاح والطلاق أو حيًا وميتًا كموص ووصي أو إنسانًا وبهيمة كراعٍ وشاة وفذها.

فهو يفتي في الطلاق ولا يبحث عن أسباب الطلاق الفاشية، ويفتي في الأيمان ولا ينهى الناس عن الحلف ولا عن الحنث فيه بعد انعقاده، ويحرّم الخمر والميسر ولا يبيّن للناس مضارّهما ولا يزجرهم عن تعاطيهما- وبالجملة فهو رجل انقطعت الصلة بينه وبين أهل زمنه، فإن قدرت له ملابسة الناس جمع جماعة قليلة يقرئهم درسًا خاصًا لا علاقة له بحالهم أو يتلو معهم حزبًا.

أما المعرض العام، معرض الأمة الزاخر بالمفاسد والموبقات، فشيء لا شأن للعلم به، وأما هداية الأمة وضلالها فأمرهما- في نظره- موكول إلى الله الذي وكله إلى العلماء ... وبهذه السيرة التي كانوا عليها خرجت قيادة الأمة من أيديهم إلى أيدٍ لا تحسن قيادة الأمة ...

ولو أنهم عملوا للصالح العام ولو قليلًا، لوجدنا الطريق معبّدًا ولخفّفوا علينا من هذا العناء الذي نقاسيه، ويا ليتنا خرجنا معهم كفافًا لا علينا ولا لنا، ولكنهم أبقوا من سكوتهم ضجة للمبطلين علينا، فما أنكرنا عليهم منكرًا تئط منه السماوات إلا وتصايحوا: لماذا لم ينكره العلماء قبلكم ومن العناد احتجاجك على ميت ... وويل لك إن سكتَّ ... وألف ويل إن نطقت ...

<<  <  ج: ص:  >  >>