للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وحمدت الله على خفوت صوت الخطيب وجهل السامعين بالعربية، وإن هذا لمن المواطن التي يستحب فيها الجهل والصمم وكأن حضرة الخطيب جاء بتلك الخطبة شاهدًا لما وصمت به علماء الدين من إلهائهم للعامة بالقشور، وقد سبق التعارف بيني وبين الشيخ احتشام الحق أثناء الأسبوع الأول في دعوة عشاء بداره، وهو يحسن العربية فهمًا ونطقًا، ثم لم أجتمع به بعد تلك الجمعة، ولا أدري أينا الملوم.

ثم صلّيت الجمعة الثالثة في مسجد آخر، وألقيت قبل الصلاة محاضرة طويلة ترجمها المترجم فصلًا فصلًا، وكان التأثر بها عظيمًا، ولما فرغت طلب مني الإمام الراتب أن أخطب للجمعة وأصلّي بالناس، فخطبت خطبة الجمعة من غير ترجمة، ولكن إحساس المصلّين قام مقام الترجمة، فكان تأثّر، وكان خشوع، وكان اتصال روحاني بين السامع والمسموع، كل ذلك لأن حالة السامعين الحاضرة كانت هي الموضوع.

ثم صلّيت الجمعة الرابعة من إقامتي الأولى في كراتشي في جامع الميمن، وهو جديد لم يتم بناؤه ولم يسقف وإنما هو مغطّى بـ"قلوع " تدفع الحرّ، ولئن تمّ ليكونن أوسع مساجد كراتشي، والقائمون عليه هم تجّار الميمن، وهي طائفة مواطنها في شرق الهند، وهي أنشط طوائف مسلمي الهند في التجارة والتنقل في سبيلها، وقد حاضرت المصلّين كالعادة بالمترحم، وهم آلاف، فلما حانت الصلاة رغب إلي إمامهم وكبراؤهم أن أخطب للجمعة وأصلي بالناس، وهم لا يشترطون في الإمام الاستيطان، ولا في الجامع السقف، فخطبت وصلّيت. ولما كانت هذه المحاضرات وهذه الخطب الجمعية كلها وصفًا لداء المسلمين ودوائهم، كان التأثّر بها عظيمًا، وإن حالة المسلمين اليوم قد أصبحت من شدّة الوضوح مما يستوي في معرفته العالم والجاهل، وإن مسلمي باكستان والهند عمومًا ليزيدون على طوائف المسلمين التي عرفناها بشدّة التأثّر وسخاء الدمع إذا سمعوا كلام الله أو سمعوا التذكير به، لا سيّما إذا كان بالعربية ولو لم يفهموها، لما وقر في نفوسهم من علاقتها بالوحي والنبوّة وأنها لسان محمد وهم يحبونه، ولغة الجنة وهم يحبّونها ويتمنّونها، ولا عجب في تأثّرهم بما لا يفهمون فقد يطرب سامع الموسيقى إلى حدّ الخروج عن الاعتدال، وليس فيها شيء يفهم ولا يترجم، إنما هو فيض روحاني المأتى، فهو فوق العبارات، فلا تحدّه معاني العبارات، ولا يتوقف عليها.

ألا إن مسلمي باكستان والهند لينفردون بخاصية، سمّيتها بعد التأمل والدراسة "القابلية" وأعتقد أن هذا هو اسمها الحقيقي، فقابلية الخير والصلاح والإصلاح فيهم ظاهرة السمات، فلو رزقوا الموجّه المسدّد، والمشير الحكيم، لسبقوا طوائف المسلمين كلها إلى غاية الخير التي نرجوها للمسلمين، ولَلَوَوْا الأعنة سراعًا إلى هدي القرآن، وقالوا للمتخلفين البطاء: الحقوا فقد سبقنا، والموعد بيننا وبينكم "محمد".

<<  <  ج: ص:  >  >>