للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

معروفًا عند العقلاء، قريبًا من مدارك البسطاء، أن القوة وحدها لا خير فيها لأنها جبرية واستعلاء، وأن الرحمة وحدها لا خير فيها لأنها ضعف وهُوَيْنا، وان الخير كل الخير في اجتماعهما، ولكن الجمع بينهما ليس من مقدور الإنسان المسخّر للأهواء والعوائد، المنساق للأماني والمطامع، المنجذب إلى مركز الأنانية، فلا تجمع بينهما على وجه نافع إلّا قوة سماوية تتجلّى في نبوّة ووحي وخلافة راشدة واتّباع صادق مشتق من هذه.

ومن حكمة الإسلام العليا أنه وضع الموازين القسط للمتضادات فإذا هي متآلفة، والمتنافرات إذا تآلفت صلح عليها الكون لأنها سرّ الكون وملاكه، فوضع الحدود لهذه المتنافرات، وأعطى كل واحدة حقّها، ووجّهها إلى الخير في مدارها الطبيعي، فإذا هي أشياء في الاسم والذات والوظيفة، ولكنها شيء واحد في الغاية والفائدة والأثر، وكلها خير ونفع وصلاح وجمال.

وضع الحدود بين المرأة والرجل فائتلفا، وأطفأ بالعدل والإحسان نار الخلاف بينهما، والخلاف بينهما هو أصل شقاء البشرية، ولا يتم إصلاح في المجتمع ما دام الخلاف قائمًا بين الجنسين، وما زالت الجمعيات البشرية من الرجال مختلفة النظر إلى المرأة، فبعضهم يرفعها إلى أعلى من مكانها فيُسقِطها ويسقط معها، ويعطيها أكثر من حقّها ومن مقتضيات طبيعتها فيفسدها ويفسد بها المجتمع، وبعضهم يحُطها عن منزلتها الإنسانية فيعدّها إمّا بهيمة وإما شيطانًا حتى جاء الإسلام فأقرّها في وضعها الطبيعي وأنصفها من الفريقين.

كذلك وضع الحدود بين الآباء والأبناء، وكم أزاغت الشرائع والقوانين الوضعية هذه القضية عن الاعتدال إلى طرفي الإفراط والتفريط.

كذلك وضع الحدود للسادة والعبيد، وللحاكمين والمحكومين، وللأغنياء والفقراء، وللجار وجاره، وللإنسان والحيوان، وللروح والجسم، فألّف بين السادة والعبيد بقانون الرفق، والترغيب المتناهي في العتق، وألّف بين الحاكمين والمحكومين بقانون العدل والمساواة، وبين الأغنياء والفقراء بنظام الزكاة والإحسان، وبين الجيران بوجوب الارتفاق والحماية، حتى اعتبر الجيرة لحمة كلحمة النسب أو أشد، ومَحا من المجتمع نظام الطبقات والأجناس والعناصر، فلا فضل لعربي على عجمي إلّا بالتقوى، ولا عزّة للكاثر، ولا تعظّم بالآباء، ولا عصبية بالقبيلة، ولا تفاضل بالجاه والمال، وجعل لليتيم حرمة تدفع عنه غضاضة اليتم، ولابن السبيل حقًا يحفظه من الضياع وفساد الأخلاق، وللغريب حقًا يُنسيه وحشة الاغتراب، وجعل ميزان التفاضل روحيًا لا ماديًا، فالغني أخو الفقير بالإسلام، وليس الغني أخًا للغنيّ بالمال، وقرّر للحيوان الأعجم حق الرفق والتربيب، وحماه من الإعنات والتعذيب، وأشركه مع الإنسان في الرحمة، ففي كل ذات كبدٍ حَرَّى أَجْرٌ، وحلّ مشكلة الروح والجسم، وعدل ما

<<  <  ج: ص:  >  >>