للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ويميّز بين الخير والشر، وبين خير الخيرين، وشر الشرّين، لذلك غلب صوابهم على خطإهم في الفهم وفي الاجتهاد، ولذلك أصبحت فهومهم للدين وسائل للوصول إلى الحق، وآراؤهم في الدنيا موازين للمصلحة، وما هم بالمعصومين ولكنهم لوقوفهم عند الحدود وارتياض نفوسهم على إيثار رضى الله وشعورهم بثقل عهده، وفقهم الله لإصابة الصواب.

وكانوا يزنون الشدائد التي تصيبهم في الطريق إلى إقامة دين الله بأجرها عنده ومثوبتها في الدار الآخرة، لا بما يفوتهم من أعراض الدنيا وسلامة البدن وخفض العيش وراحة البال، فكل ما أصابهم من ذلك يعدّونه طريقًا إلى الجنة ووسيلة إلى رضى الله.

وكانوا ملوكًا على الملوك، واقفين لهم بالمرصاد، لا يقرونهم على باطل ولا منكر ولا يسكتون لهم على مخالفة صريحة للدين، ولا يتساهلون معهم في حق الله، ولا يترضونهم فيما يسخط الله.

بتلك الخلال التي دللنا القارئ عليها باللمحة المنبّهة قادوا الأمة المحمّدية إلى سعادة الدنيا وسعادة الآخرة ... وبسير الأمراء المصلحين على هداهم سادوا أغلب الجزء المعمور من هذه الأرض بالعدل والإحسان، إذ كان الأمير في السلم لا يصدر إلا عن رأيهم، والقائد في الحرب لا يسكن ولا يحرّك إلا بإشارتهم في كل ما يرجع إلى الدين، فجماع أمر العلماء إذ ذاك أنهم كانوا "يقودون القادة". وما رفعهم إلى تلك المنزلة بعد العلم والإخلاص إلا أنهم كانوا "حاضرين" غير "غائبين" ... كانوا يحضرون مجالس الرأي مبشّرين شاهدين وميادين الحرب مغيرين مجاهدين، طبعهم الإسلام على الشجاعة بقسميها: شجاعة الرأي وشجاعة اللقاء، فكانوا يلقون الرأي شجاعًا فيقهر الآراء، ويخوضون الميادين شجعانًا فيقهرون الأعداء ... وللآراء اقتتال يظفر فيه الشجاع القوي، كما للأناسي اقتتال يظفر فيه الشجاع القوي. والعالم الجبان في أمة عضو أشل، يؤود ولا يذود، ولعمري ان في اتحاد صف الصلاة وصف القتال، في الاسم والاتجاه والشرائط، لموقف عبرة للمتوسمين.

صدق أولئك العلماء ما عاهدوا الله عليه، وفهموا الجهاد الواسع فجاهدوا في جميع ميادينه، فوضع الله القبول في كلامهم عند الخاصة والعامة، وأن القبول جزاء من الله على الإخلاص يعجله لعباده المخلصين، وهو السر الإلهي في نفع العالم والانتفاع به، وهو السائق الذي يَدع النفوس المدبرة عن الحق إلى الإقبال عليه. ونفوذ الرأي وقبول الكلام من العالم الديني الذي لا يملك إلا السلاح الروحي، هو الفارق الأكبر بين صولة العلم وصولة الملك، وهو الذي أخضع صولة الخلافة في عنفوانها لأحمد بن حنبل، وأخضع صولة الملك في رعونتها للعز بن عبد السلام ... وان موقف هذين الإمامين من الباطل لعبرة للعلماء لو كانوا يعتبرون، وان في عاقبتهما الحميدة لآية من الله على تحقيق وعده بالنصر لمن ينصره.

<<  <  ج: ص:  >  >>