للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

دينها ودنياها وأوصلوها إلى هذه الحالة التي نشاهدها اليوم، وما زال كثير منهم مصرًّا على تذكير الأمة بما ينسيها الله، وعلى علاج حمّاها بالطاعون.

أرأيت لو كان علماء الدين قائمين بواجب التذكير بالقرآن، مؤدّين لأمانة الله، راعين لعهده في أمة واحدة، أكانت الأمة الإسلامية تصل إلى هذه الدركة التي لم تصل إليها أمّة؟ فهي كثيرة العدد تبلغ مئات الملايين، ولكنها غثاء كغثاء السيل.

واجب العالم الديني أن ينشط إلى الهداية كلّما نشط الضلال وأن يسارع إلى نصرة الحق كلّما رأى الباطل يصارعه، وأن يحارب البدعة والشر والفساد قبل أن تمدّ مدّها، وتبلغ أشدّها، وقبل أن يتعوّدها الناس فترسخ جذورها في النفوس ويعسر اقتلاعها.

وواجبه أن ينغمس في الصفوف مجاهدًا ولا يكون مع الخوالف والقعدة، وأن يفعل ما يفعله الأطباء الناصحون من غشيان مواطن المرض لإنقاذ الناس منه، وأن يغشى مجامع الشرور لا ليركبها مع الراكبين بل ليفرّق اجتماعهم عليها.

وواجبه أن يطهّر نفسه قبل ذلك كله من خلق الخضوع للحكّام والأغنياء وتملّقهم طمعًا فيما في أيديهم، فإن العفة هي رأس مال العالم فإذا خسرها فقد خسر كل شيء وخلفها الطمع فأرداه.

إن علماء القرون المتأخرة ركبتهم عادة من الزهو الكاذب والدعوى الفارغة، فجرّتهم إلى آداب خصوصية، منها أنهم يلزمون بيوتهم أو مساجدهم كما يلزم التاجر متجره، وينتظرون أن يأتيهم الناس فيعلموهم، فإذا لم يأتهم أحد تسخّطوا على الزمان وعلى الناس، ويتوكأون في ذلك على كلمة إن صدقت في زمان، فإنها لا تصدق في كل زمان وهي: "إن العلم يؤتى ولا يأتي" وإنما تصدق هذه الكلمة في علم غير علم الدين، وإنما تصدق بالنسبة إليه في جيل عرف قيمة العلم فهو يسعى إليه، أما في زمننا وما قبله بقرون فإن التعليم والإرشاد والتذكير أصبحت بابًا من أبواب الجهاد، والجهاد لا يكون في البيوت وزوايا المساجد، وإنما يكون في الميادين حيث يلتقي العدو بالعدو كفاحًا، وقد قال لي بعض هؤلاء وأنا أحاوره في هذا النوع من الجهاد، وأعتب عليه تقصيره فيه: إن هذه الكلمة قالها مالك للرشيد، فقلت له: إن هذا قياس مع الفارق في الزمان والعالم والمتعلم، أما زمانك هذا فإن هذه الخلة منك ومن مشائخك ومشائخهم أدّت بالإسلام إلى الضياع وبالمسلمين إلى الهلاك. فالشبهات التي ترد على العوام لا تجد من يطردها عن عقولهم ما دام القسيسون والأحبار أقرب إليهم منكم، وأكثر اختلاطًا بهم منكم، والأقاليم الإفرنجية تغزو كل يوم أبنائي وأبناءك بفتنة لا يبقى معها إيمان ولا إصلاح، ففي هذا الزمن يجب علي وعليك وعلى أفراد هذا الصنف أن نتَجَنَّد لدفع العوادي عن الإسلام والمسلمين، حتى يأتينا الناس، فإنهم

<<  <  ج: ص:  >  >>