للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والتجريح لأنها لم تنقل بطريق التواتر، وما دامت مدارك المجتهدين الذين هم المرجع في هذا الباب متفاوتة بالقوّة والضعف في الاستنباط ووجوه القياس وعلله، وما دامت الوقائع التي تناط بها الأحكام لا تنضبط، وقد استحدث العمران أنواعًا جديدة من المعاملات الدنيولة لا عهد للإسلام الفطري بها، وصورًا شتى من المعايش ووجوه الكسب لم تكن معروفة، فمن سماحة التشريع الإسلامي ومرونته أن تتناول هذه المستحدثات الجديدة بأنظار جديدة، وتستنبط من أصوله أحكام لفروعها، وكل هذا لا حرج فيه وليس داخلًا فيما نشكوه، بل نحن أول من يقدر قدر تلك الأنظار الصائبة والمدارك الراقية، ويقيمها دليلًا على اتّساع التشريع الإسلامي لمصالح الناس، وصلاحيته لجميع الأزمنة، وينكر على من سدّ هذا الباب على الأمة فزهّدها في استجماع وسائله، ونحن أول من يقدر قدر أولئك الأئمة العظام الذين هم مفاخر الإسلام.

والمذاهب الفقهية في حدّ ذاتها ليست هي التي فرقت المسلمين، وليس أصحابها هم الذين ألزموا الناس بها أو فرضوا على الأمة تقليدهم، فحاشاهم من هذا، بل نصحوا وبينوا وبذلوا الجهد في الإبلاغ وحكموا الدليل ما وجدوا إلى ذلك السبيل، وأتوا بالغرائب في باب الاستنباط والتعليل، والتفريع والتأصيل، ولهم في باب استخراج علل الأحكام، وبناء الفروع على الأصول، وجمع الأشباه بالأشباه، والاحتياط ومراعاة المصالح ما فاقوا به المشرعين من جميع الأمم.

وإنما الذي نعده في أسباب تفرق المسلمين هو هذه العصبية العمياء التي حدثت بعدهم للمذاهب، والتي نعتقد أنهم لو بعثوا من جديد إلى هذا العالم لأنكروها على أتباعهم ومقلديهم، وتبرأوا إلى الله منهم ومنها، لأنها ليست من الدين الذي اؤتمنوا عليه، ولا من العلم الذي وسّعوا دائرته.

وكيف يرضون هذه العصبية الرعناء ويقرون عليها مقلدتهم، ومن آثارها فيهم جعل كلام غير المعصوم أصلًا وكلام الله ورسوله فرعًا يذكر للتقوية والتأييد إن وافق، فإن خالف أرغم بالتأويل حتى يوافق، وهذا شر ما بلغته العصبية بأهلها، ومن آثارها فيهم معرفة الحق بالرجال، ومن آثارها فيهم اعتبار المخالف في المذهب كالمخالف في الدين، يختلف في إمامته ومصاهرته وذكاته وشهادته إلى غير ذلك مما نعدّ منه ولا نعدده.

وقد طغت شرور العصبية للمذاهب الفقهية في جميع الأقطار الإسلامية، وكان لها أسوأ الأثر في تفريق كلمة المسلمين، وإنّ في وجه التاريخ الإسلامي منها لندوبًا.

أما آثارها في العلوم الإسلامية فإنها لم تمدها إلّا بنوع سخيف من الجدل المكابر لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا عاصم من شرور هذه العصبية إلّا صرف الناشئة إلى تعليم

<<  <  ج: ص:  >  >>