للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تحية غائب كالآيب ... *

حيّ الجزائر عني يا صبا ... واحمل إليها مني سلامًا تُباري لطافته لطافتك، وتُساري إطافته إطافتك، فقديمًا حمّلك الكرام الأوفياء مثلَ هذه التحية إلى من يكرُم عليهم، أو ما يكرم عليهم، فحملتها رَوحًا، وأدّيتها بَوحًا، وأعلنتها شذً ى وفوحًا، وكنت بريد الأرواح إلى الأرواح، بألفاظ غير مكتوبة، ومعانٍ غير مكذوبة، وقديمًا أفضى إليك الشعراء بشجونهم، وائتمنوك على جدهم ومجونهم، فاحتملت غثًّا وسمينًا، وكنت على الأسرار أمينًا، فكأنّك كنت لهم محطة إرسال واستقبال معًا، يحمّلونك الرسائل تخيّلًا، ويتلقّون أجوبتها إحساسًا، وما عرف واش ولا شعر رقيب، وما كنت لديهم الثقة الأثير، إلا لأنك "ابن الأثير". وكأنّ محطات الحقيقة اليوم وُضعت بإشارتك وتأثّرت بأثارتك، وكأن شأنك وشأنهم في ذلك إرهاص بحقيقة حوّموا عليها ولم يردوا، وجمجموا عنها ولم يفصحوا، وادّخَر الله تحقيقها لهذا الزمان، ولا عجب فكل حقيقية مبداها خيال.

لي إليك وسيلة مرعية المتات بما أسلف أوائلي فيك من مدح، وبما أذاعوا لك من فضل، وبما رفعوا لك من ذكر، فالذي تؤدّيه عني اليوم هو "ثمن الإعلان" ورثتُه عن سلف، ولم يُسقِط حقّي فيه تقادم الزمان.

أنتَ يا صبا ريح، وكأنّ فيك قطعةً من كل رُوح، يجد فيك كل غريب أنسًا، وكل حبيب سلوى، وكل مكروب تنفيسًا، خلال كلّها جلال، وما ذلك الروح الذي يجده الواله في أنفاسك، إلا أنفاس المحبّين تمتزج بأنفاسك، فيجدونها بردًا على الأكباد، وبشاشةً في الأسارير ورضًى في السرائر. فلعمرك ... لئن كان في الرياح لواقح للأشجار، ففيك وحدك لقاح النفوس، ولئن كان فيها ما يُحرق الورق، ففيك وحدك ما يطفئ الحُرَق.


* نشرت في العدد ٢٢٩ من جريدة «البصائر»، ١٥ ماي سنة ١٩٥٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>