للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مجزئ ويقول العامي: هذا مفطر وهذا صائم، أما حقيقة الصوم الكامل التي يناط بها القبول عند الله، فهو إمساك أشدّ وأشقّ لأنه يتناول الإمساك عن شهوات اللسان أيضًا، من كذب وغيبة ونميمة وشهادة زور وأَيْمان غموس وخوض في الأعراض، وغير ذلك مما يسمّى حصائد الألسنة. فالصائم الموفّق هو الذي يفطم لسانه عن هذه الشهوات الموبقة، وأشدّها ضررًا الغيبة وإشاعة الفاحشة.

وهذا النوع من الإمساك يدخل في معنى الصوم لغة وفي مفهومه شرعًا، ونصوص الدين تدل على أنه شرط في القبول، مثل: «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ ائجُوعُ وَائعَطَشُ»، ومن اللطائف القرآنية أن الله تعالى وصف المغتاب بأنه {يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ} وهذه الكناية البديعة تصوّر هذا النوع من الإفطار الخفيّ أبشع تصوير، يستشعر السامع منه أن المأكول لحم إنسان، وكفى به شناعة، وبأنه ميت، والميت يذكّر بالميتة، وذلك أشنع وأبلغ في التنفير.

أما هذه الحالات التي أصبحت لازمةً للصوم بين المسلمين، ويعتذرون لفاعلها بأنه صائم، مثل سرعة الغضب، والانفعال، واللجاج في الخصومة على التوافه، والاندفاع في السباب لأيسر الأسباب- فكلها رذائل في غير رمضان، فهي فيه أرذل، لأنها تذهب بجمال الصوم وبأجره، وكل قبيح اقترن بجميلٍ شانه، وأذهب بهاءه ورونقه، وكم رأينا من آثار سيئة ترتّبت على ذلك، والجاهلون بسرّ الصوم وحكمه يعتقدون أن ذلك كلّه من آثار الصوم وعوارضه، وكذبوا وأخطأوا ... فإن الصوم يؤثر في نفوس المؤمنين الضابطين لنزواتهم عكسَ تلك الآثار: هدوء واطمئنان وتسامح وتحمّل، وورَد لدفع ذلك من آداب النبوّة أمرُ الصائم إذا شارّه غيره أن يقول: «إِنِّي صَائِمٌ».

فعلى الدعاة إلى الحق والوعّاظ المذكّرين وخطباء المنابر أن يحيوا آداب الصوم في نفوسهم، ثم يذكّروا الناس بها حتى تحيا في نفوس الناس، ومن صبر على الصوم المديد، في الحر الشديد، ابتغاء القرب من الله فليصبر على ما هو أهون ... ليصبر على الأذى المفضي إلى اللجاج المبعد عن الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>