للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المضائق وسرعة الاستجابة إلى داعي الحق إذا دُعيَ إليه، وخفّة الإقدام إلى الأمام وتلمّس القيادة الرشيدة والشعور بالحاجة إلى توحيدها وغير ذلك من العوارض التي تظهر لمثل هذه الأطوار من حياة الأمم، وهل هذه الإرهاصات موجودة؟ نعم يوجد بعضها القليل ولكن آفته الكبرى أنه متّجه إلى غير القبلة المشروعة وإن الرياح تسوق سحبه إلى غير أرضنا.

لنخرج من النفاق الغرار الخادع إلى الصدق والصراحة فنقول: الموجود من تلك الأشياء الثلاثة هو الأسماء مفسّرة في الغالب بغير معانيها مصوّرة بغير صورها الحقيقية، وإذا فسد التصوّر فسد التصوير، لأننا ما زلنا نبني تصوراتنا على أُسس من الأماني ونزجّها بالفال ومعاني الفال، فلا تنتهي بنا إلى الأعمال وإنما تنتهي إلى الخيال ثم إلى الخبال، وما زلنا على بقية من الافتتان بالتفسيرات القاموسية التي تقول لنا مثلًا ان اليقظة هي الصحو من النوم ولو أن نائمًا صحا من نومه صحوًا كاملًا ولم يبق في أجفانه فتور ولا ترفيف ولكنه بقي في مضجعه لم يعمل عملًا ولم يأت شيئًا من مستلزمات الصحو ونواقض النوم لكان هذا كافيًا في تحقيق المعنى القاموسي، ولكنه لا يفيد المعنى الاجتماعي بل يعد كما لو كان يغط في نومه، وكذلك تقول في معنى اليقظة ومعنى النهضة. تصحيح معاني هذه الكلمات يستلزم إصلاحًا شاملًا للمفاسد النفسية ويتغلغل إلى مكامن الأمراض فيها فيطهّرها ليبني العلاج على أصل صحيح وإلى عروق الشرّ منها فيمتلخها ليأمن النكسة، ومردّ ذلك كله إلى الأخلاق فهي أول ما فسد بيننا فتكون أول ما أفسد علينا كل شيء. فلتكن هي أول ما نصلح إن كنّا جادّين في تثبيت الوعي واليقظة والنهضة ... لأن الأخلاق إذا استقامت تفتّحت البصائر للوعي وتهيّأت الشواعر لليقظة وانبعثت القوى للنهضة. فكان الوعي بصيرًا وكانت اليقظة عامّة وكانت النهضة شاملة وكانت الحياة لذلك كله كاملة.

نعترف أن نومنا كان ثقيلًا وبأن عمر أمراضنا كان طويلاً. نعرف أن النوم الثقيل لا يصحو صاحبه لا بصوت يصخّ أو بضرب يصكّ وأن المرض الطويل لا يشفى المبتلى به إلا بتدبير حكيم قد يفضي إلى البتر أو القطع، وقد أصابنا من القوارع ما لو أصاب أهل الكهف لأبطل المعجزة في قصتهم ومما كانوا به مثلًا في الآخرين. ولكننا لم نصح من نوم إلا لنستغرق في نوم ولم ننفلت من قبضة منوّم؛ إلا لنقع في قبضة منوّم. صحونا من نوم الاتكال فنقلنا إلى نوم التواكل. وخرجنا من نوم الجهل ومن نوم الركود إلى طفرة تدقّ الأعناق وانفلتنا من تنويم تجّار الدين فوقعنا في تنويم تجّار السياسة. أولئك يمنوننا بسعادة الآخرة من دون أن يسلكوا بنا سبيلها الواضحة، وهؤلاء أصبحوا يغنون لنا ... بسعادة الدنيا دون أن يدلّونا على نهجها الصحيح، وكانت العاقبة لذلك كلّه ما نرى وما نحسّ وما نشكو.

وما أضلّنا إلا المجرمون الذين يدعونا بعضهم إلى الجمع بوسيلة التفريق ويدعونا بعضهم إلى النجاة بطريقة التغريق، والأولون هم رجال الدين الضالون الذين فرّقوه إلى مذاهب

<<  <  ج: ص:  >  >>