للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كذلك لم يبتلِ الله فيمن ابتلى من خلقه بمثل ما ابتلاكم به من استعمار حيواني شرِه أذاقكم لباس الجوع، ولم يستطع أن يذيقكم عذاب الخوف، ولكنكم أذقتموه الهزائم التي سجّلها التاريخ، وقاوم ضعفكم الذي يمدّه الإيمان قوّته التي يمدّها الطغيان، وصدقتم ما عاهدتم الله عليه فمنكم من قضى نحبه ومنكم من ينتظر وما بدّلتم تبديلًا.

أيها الإخوان:

لم تتفق جمعية الأمم على قضية مثلما اتفقت على استقلالكم، على ما شاب ذلك الاستقلال من شوائب، وعلى ما حفّه من مصائب، وعلى ما سبقه وتبعه من مناورات وألاعيب، فكل ذلك يشفع له أنه مولود، والمولود يولد ضعيفًا ثم تقوّيه العناية والرعاية والحياطة والمحافظة، وكذلك قال الناس عنكم وبذلك استقبلوا استقلالكم مع الرحمة بكم والإشفاق عليكم.

أيها الإخوان:

فرح إخوانكم العرب والمسلمون باستقلالكم لأنهم يعدّونه جزءًا من استقلالهم أو تثبيتًا له أو وسيلة لاستقلال غير المستقلّ منهم، بل لأنهم يرون فيه تحقيقًا لأكبر حاجة في نفوسهم وهي الاتصال بين شرقهم وغربهم. فقد كانت ليبيا- وما زالت- كما وضعها الله جسرًا بين الشرق والغرب مرّ عليه الفاتحون من أسلافنا يحملون إلينا الهدى ودين الحق، ومرّت عليه مواكب العروبة ممثلة في بني هلال بن عامر بن صعصعة يحملون إلينا الخصائص الجنسية والبيان، ومرّ عليه الدعاة إلى الحق من أئمة الدين، والحاملون للعدل والإحسان من الغزاة المجاهدين، فعلى سهول أرضكم مرّ عقبة فاتحًا وأبو المهاجر منبتًا وحسّان معمرًا ومطهّرًا للبقعة وطارقًا موسّعًا للرقعة، وعليها مرّ إدريس ليغرس في المغرب شجرة النبوّة وعبد الرحمن ليقيم فيه الخلافة المروانية.

فكان أول الواجبات على مليككم وحكومتكم أن يحافظوا على هذا الاستقلال وأن يقدّروا الأثمان التي اشتُري بها وأن يسوسوه بالحكمة والحذر، وأن يحفظوا ذمة الشهداء الأبرار من بنيه، وأن يرعوا حرمة ما أريق على جوانبه من دموع ودماء، وأن يديجوه على الذلل السماح من الطرائف، وأن يجنبوه وهو في خطواته الأولى مزالق المعاهدات مع من لا عهد له ولا ميثاق، وأن يربطوا مستقبله بالشرق لا بالغرب، وبالقريب لا بالغريب.

ولكنهم- مع الأسف- جاءوه بالكفن وهو في ثياب العرس، وعرضوا النوائح في مواكب الفرح، وأرادوا أن يعالجوه من الفقر فعالجوه بالفقر ومعه الذل، وأن يداووه فداووه من الحمّى بالطاعون، وقيّدوه بقيد من حديد مع مستعمر عتيد وجبّار عنيد وعدوّ لدود عرف

<<  <  ج: ص:  >  >>