للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

معنى الصوم *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

للإسلام في كل عبادة من عباداته حكم تستجليها العقول على قدر استعدادها، فمنها حكم ظاهرة يدركها العقل الواعي بسهولة، ومنها حكم خفية، يفتقر العقل في اجتلائها إلى فضل تأمل وجولان فكر.

ولكلّ عبادة في الإسلام تؤدّى على وجهها المشروع وبمعناها الحقيقي آثار في النفوس تختلف باختلاف العابدين في صدق التوجّه واستجماع الخواطر واستحضار العلاقة بالمعبود، والغرض الأخصّ للإسلام في عباداته التي شرعها، وهو تزكية النفس وتصفيتها من شوائب الحيوانية الملازمة لها من أصل الجبلة وترقيتها للمنازل الإنسانية الكاملة، وتغذيتها بالمعاني السماوية الطاهرة، وفتح الطريق أمامها للملإ الأعلى، لأن الإسلام ينظر إلى الإنسان على أنه كائن وسط ذو قابلية للصفاء الملكي والكدر الحيواني، وذو تركيب يجمع حمأ الأرض وإشراق السماء، وقد أوتي العقل والإرادة والتمييز ليسعد في الحياتين المنظورة والمذخورة، أو يشقى فيهما، امتحانًا للعقل من خالق العقل والمنعم به، ليظهر مزية العاقل على غير العاقل من المخلوقات. والعبادات إذا لم تعط آثارها في أعمال الإنسان الظاهرة، فهي عبادة مدخولة أو جسم بلا روح.

والصوم في الإسلام عبادة سلبية، بمعنى أنها إمساك مطلق عن عدة شهوات نفسية في اليوم كله لمدة شهر معيّن، فليس فيها عمل ظاهر للجوارح كأعمال الصلاة وأعمال الحج مثلًا، ولكن آثار الصوم في النفوس جليلة، وفيه من الحكم أنه قمع للقوى الشهوانية في الإنسان، وأنه تنمية للإرادة وتدريب على التحكم في نوازع النفس، وهو في جملته امتحان سنوي يؤدّيه المسلم بين يدي ربّه، والنجاح في هذا الامتحان يكون بأداء الصوم على وجهه


* حديث في إذاعة بغداد، ماي ١٩٥٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>