للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من عاذري؟ *

يعز علي أن أنقطع عن الكتابة في «البصائر» هذه المدة الطويلة وأن أهجر أحبّ ميدان من ميادين العمل إلى نفسي وهو صفحات «البصائر»، فلقد كنت أجد من اللذة في ذلك العمل ما لا أجده في غيره من أعمالي العمومية وأحسّ للكلمة أكتبها في «البصائر» من حسن الوقع والارتياح ما لا أجده للمحاضرة تهزّ الجمهور وتصيب مواقع التأثير منه، وكأن الاتصال الروحاني بيني وبين القارئين أوثق وأعمق منه بيني وبين السامعين.

ويعزّ علي- أكثر من ذلك- أن أتلقّى سهام العتب من قرّاء «البصائر» في الشرق والغرب على هذا الهجر الطويل، فلقد لقيت في مطار القاهرة، قبيل رمضان الماضي، أخوين فاضلين من شيوخ جامع الزيتونة متوجّهين إلى المدينة المنوّرة، وكانا لا يعرفانني إلّا من طريق قراءة «البصائر»، ففرحا بلقائي وفرحت بلقائهما، وما كاد ينتهي تنازع التحية بيننا حتى وجّها لي العتاب الشديد على حرمان القرّاء من مقالاتي في «البصائر» ووصفاها بما هما أهله من كرم النفس. ورجعت من المطار إلى القاهرة فتلقّيت في بريد ذلك اليوم عدة رسائل تَنْعَى علي هذا الهجر وهي في ذلك بين مخفف ومشدّد، ثم تلقّيت في الأسبوع الأول من رمضان عدة رسائل لم تخل واحدة منها من عتاب ومن بينها رسالة من الأخ الأستاذ أحمد توفيق المدني، شاب فيها العتاب بالمطالبة بالحق المدني، وصنع معنى بمعنى، فكانت حجّته داحضة لأنه سدّ عليّ أبواب المعاذير. ثم سافرت في سابع رمضان إلى بيروت وسمر حولي جماعة من الأصدقاء فكدروا عليّ صفو السمر بالعتاب، وسافرت بعد يومين إلى دمشق، فسمعت العتاب المر من جماعة من الأصحاب، ثم وردت بغداد في صبح ثالثة فلقيني بعض المستقبلين وفي يده العددان الأخيران من «البصائر» - وكنت لم أرهما بعد- ووجّه إلي على خلاف عادته أقسى ما سمعته من اللوم بأسلوب شعري وكأنه عاذل يعذل على الهجر، والعذال إنما يعذلون على الوصل.


* «البصائر»، العدد ٢٧٨، السنة السابعة من السلسلة الثانية، ٩ جويليه ١٩٥٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>