للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثالث: التطور الفكري الفجائي الذي خرج به الجمهور من ثمرات الحرب العظمى. ومن آثار ذلك التطور انحطاط قيمة المقدسات الوهمية في نظر كثير من الناس. ومما أعان على نمو هذا الأثر في النفوس تطور زعماء التخريف وأساطين التدجيل بالانكباب على المال، والتكالب في جمعه والانهماك في الملذات ومزاحمة العامة في الوظائف والنياشين (٣)، بعد أن كانوا وكان سلفهم القريب يتظاهرون بالبعد عن هذه المواقف، ويتنصلون من النياشين إذا عرضت لهم، ويكثرون في مجالسهم من مثل هذه الجملة (لا شيعة إلّا شيعة ربي) (٤) إغراقًا منهم في التلبيس على العامة، واستبقاء لطاعتها وتجنبًا لنفورها. ولكن الحرب العظى فضحتهم بآثارها وأطوارها.

الرابع: عودة فئة من أبناء الجزائر البررة المخلصين من الحجاز مهد الإسلام الأول ومنبت الدعوة إلى الحق ومبعث الإصلاح الإنساني العام، بعد أن تلقوا العلم هناك بفكرة إصلاحية ناضجة مختمرة.

وإن هذه الفئة التي رجعت من الحجاز بالهدي المحمدي الكامل قد تأثرت بالإصلاح تأثرًا خاصًا مستمدًا قوته وحرارته من كلام الله وسنة رسوله مباشرة، ولم تكن قط متأثرة بحال غالبة في الحجاز إذ لم يكن للإصلاح في ذلك الوقت شأن يذكر في الحجاز إلّا في مجالس محدودة وعند علماء محدودين.

ولو شاء ربك لرمى الجزائر بقافلة من الحجاز مضللة تتخذ من حرمة الجوار شركًا جديدًا، وتجعل منه غلًا في الأعناق شديدًا، كما رماها بطائفة من الأزهريين الجامدين فزادوها قرحًا على قرح وكانوا ضغثًا على إبالة، ولكن ربك أرحم من أن يكثر عداد أولادها العاقين فيزيدها بذلك ويلًا على ويل وترابًا على سيل.

بهذا العامل الرابع تلاحق المدد وتكامل العدد، وانفسح للإصلاح الأمد، واتضح منه الصدد، والنهج اللاحب الجدد.

وهناك رجال ظهروا بفكرة إصلاحية محدودة، ولكنها على كل حال محمودة ... وذلك قبل أن يظهر الإصلاح (التعاوني) ويزخر عبابه وتتسق أسبابه، فقاوموا البدع في دوائر ضيقة وكان لهم في القضاء على بعضها مساع موفقة، ولهم في ذلك نيتهم وقصدهم، ولو كنا في مقام المؤرخ المتقصي، لقمنا بما يوجبه الإنصاف في حقهم، فخير ما طبع عليه امرؤ الانصاف، ولكنها نظرات عجلى نريد من ورائها ارتباط الكليات فحسب.


٣) الأوْسِمة، مفردها نِيشَان.
٤) الشِّيعَة هي الوِسام. ومعناها: لا وِسَام إلا وسام الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>