للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

معنى يبقى للرق بعد هذا؟ أي معنى يبقى لهذه الكلمة بعد أن فقدت معناها أو تصافت نفوس الفريقين وتلاقت على الأخوة والمساواة، واستشعر كل فريق منهما عزة النفس، وحظّه من تلك العزّة، وكرامة الإنسان ونصيبه من تلك الكرامة؟

إن كلمة العبقرية في ذلك الحديث هي كلمة "إخوانكم" وقد جاءت في أول الجملة لتكون أول ما يقرع الأسماع فتفعل فعلها في النفوس، وخصوصًا في ذلك الزمان. فالعبد حين يسمع تلك الكلمة يحسّ كأن نفسه الذليلة انتقلت في رحلة روحية من عالم إلى عالم، وكأنه استلم صك التحرير فجأة بيده وأنه أصبح أخًا لسيّده لا عبدًا له، وهذا ما لم تسمعه أذن في أطوار الحضارات التي من شأنها أن ترقي العقول، ولا في أطوار النبوّات التي من شأنها أن ترقي الأرواح، والسيد المالك حين يسمعها تتطامن نفسه الشرهة وأخلاقه الشرسة وغرائزه المتشبعة بحب التملّك والتسلّط ويتنزّل من عالم الاستعلاء إلى عالم الاستواء، فيرى ببصيرته أن هذا المخلوق أخ، وليس من الرجولة ولا من الإنسانية أن يمتهن الأخ أخاه.

وأي معنى يبقى للرق بعد هذا؟

على أن التشريع الإسلامي عند تكامله انتهى إلى تشريع أحكام كثيرة كلها في مصلحة الرقيق وترجيح جانبه وإعلاء كلمته، وكلها ترمي إلى بطلان الرق من ذاته تدريجيًا، والتدرّج سمة واضحة الحكمة من سمات التشريع الإسلامي تظهر في التفاوت الزمني بين العبادات، فقد شرعت الصلاة بمكة ولم تشرع بقيتها إلا بعد الهجرة، وفي أزمنة متفاوتة أيضًا، وتظهر في تحريم الخمر وتحريم الربا، وتظهر في وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن وأوصاه بعرض شرائع الإسلام عليهم واحدة واحدة وأن لا يعرض عليهم الثانية حتى يتقبّلوا الأولى.

وهذه التشريعات المنصوصة وما تفرّع عنها بالاجتهاد أو القياس هي الدليل القاطع على ان إبطال الاسترقاق وقطع دابره كانا من مقاصد الإسلام، ولكن بطريقته التدريجية الحكيمة كما وقع في تحريم الخمر، ولو أن المسلمين بعد خلافة عمر نفّذوا تلك التشريعات بحزم لما بقي للاسترقاق بينهم أثر. رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - أن إبطال الرق دفعة واحدة يفضي إلى مفاسد اجتماعية وإلى شلل محقق في المرافق الحيوية كما أسلفنا القول فيه، فجاء بذلك الدستور الذي أزهق روحه، بحيث أصبح رقيق ذلك الزمن أسعد حالًا وأوفر كرامة بآلاف المرات من أحرار هذا الزمن الذين يسامون سوء العذاب من الأقوياء المتحضرة، بدأ محمد - صلى الله عليه وسلم - الحملة على الاسترقاق بالترغيب في العتق، وأحاديثه في ذلك لا تكاد تحصر، حتى أنه جعل العتق أصلًا يقاس عليه جميع القربات، فكثيرًا ما كان يقول: من فعل كذا فكأنما أعتق رقبة، فكأن الإسلام يعد عتق العبيد أشرف أعمال الخير، يقدّر ثوابها بثوابه، ولا دليل أدلّ من هذا

<<  <  ج: ص:  >  >>