للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحال إلى عهد الخلفاء الأُول من بني مروان، وحكاية جرير مع عبد الملك معروفة حينما مدحه بقصيدته الحائية وذكر فيها ابنته أم حزرة وقوله:

ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح

فقال عبد الملك: وما يرضي أم حرزة؟ فقال كذا من الإبل، فأمر له بها.

وكما كانت الجوائز بهذا الصنف من المال كانت شرائع المكارم وشعائر المروءة تؤدى بها أيضا لأنها مال ذلك العصر، وإذن فسحيم كان في دولة الإنعام بالأنعام- وإنْ لم يكن مدّاحًا بحكم عبوديته- لا في دولة الصفراء والبيضاء، وكان من جيل لا يفهم من الصفراء والبيضاء إلا أنهما أداتان للمال وليستا المال نفسه، ناهيك بجيل يفرض أهل الرأي فيه لخليفتهم عمر نصف شاة في اليوم لا دنانير ودراهم، فكيف يخطر ببال شاعر عبد أن يفاخر الأحرار بشعره ويقومه بما عندهم من الفضّة، وهو يعرف أنها ليست من أموالهم ولا مما يفاخرون به، وإنما يفاخر المرء بما تجرى به المفاخرة عند أهل زمنه، وقد تطورت الحالة بعد سحيم بزمن وأصبح الممدوحون يجيزون مادحيهم بالذهب والفضّة لكثرتهما وبناء الحضارة المادية عليهما، فأصبحت نفوس الشعراء تتطلع إلى هذين الحجرين.

وأين زمن سحيم وجيل سحيم من الزمن الذي يقول أحد شعرائه لرئيس:

إني حلفت لئنْ لقيتك سالمًا ... بِقُرى العراق وأنتَ ذُو وَفْرِ

لَتُصَلِّيَنَّ على النبيّ محمّدٍ ... وَلَتَمْلأَنَّ دراهِمًا حِجْرِي

والذي يقول فيه أبو دلامة:

إذا جئتَ الأميرَ فَقُلْ سلامٌ ... عليكَ ورحمةُ الله الرحيمِ

وأما بعد ذاك فلِي غريمٌ ... من الأعراب قُبِّحَ من غريمِ

له مائةٌ عليَّ ونصفُ أخرى ... ونصف النصف في صَكٍّ قديمِ

دراهمُ ما انتفعتُ بها ولكنْ ... وصلتُ بها شيوخَ بني تَميمِ

...

ولله ذلك الطراز العالي من البلاغة العربية، وتلك الصفوة الممتازة من شعراء العربية، وتلك الطائفة المختارة من المدونين والرواة الذين جمعوا لنا ففرقنا، وحفظوا لنا فأضعنا، ورووا لنا شعر العبيد والنساء والنساك والفتاك والعدائين وعوران قيس وأغربة العرب، رحمهم الله وروح أرواحهم وهدانا إلى حفظ ما بقي من تلك الذخائر.

<<  <  ج: ص:  >  >>