للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونعني باليوم الحقبة المشؤومة التي ابتُليت فيها الجزائر بالاستعمار الفرنسي، لأن هذه الحقبة هي التي أصبح للإسلام فيها وضع شاذ على بقية الأقطار الإسلامية شرقها وغربها، وبهذا التحديد يستطيع المتحدّث أن يأتي بكلام مفيد في الدقائق المحدودة في "صوت العرب" المجلجل.

الجزائر- أيها المستمعون الكرام- من أزكى المغارس التي غرست فيها شجرة الإسلام فنمت وترعرعت ثم آتت أكلها طيبًا مباركًا فيه من القرن الأول للهجرة: فقد حمل الفاتحون وفيهم أولو بقية من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعاليم الإسلام إلى شمال أفريقيا، وقلب هذا الشمال هو ما نسمّيه اليوم الجزائر، فنشروها بالإقناع وثبتوها بالشواهد العملية بعد أن اجتثوا من الشمال وثنية البربر وبقايا العتو الروماني، نشروا عقائد الإسلام حتى استقرّت في النفوس، وعباداته حتى اطمأنت إليها النفوس، وأحكامه حتى حقّقت العدل، وحفظت الحقوق، وصانت المصالح، وضمنت المساواة، وأخلاقه حتى تعايش الناس على المحبة وتعاونوا على البر والتقوى.

والفتح الإسلامي بعيد عن معنى الفتح المتعارف عند المؤرخين والحربيين، المبني على القسوة والقهر، المثمر للتمكن والسلطان، إنما الفتح الإسلامي فتح للقلوب الغلف عن الهداية، والعيون العمي عن الحق، والآذان الصم عن دعوة الحق، والأذهان الغافلة عن الله، والعقول المحجوية بالظواهر عن حقائق الكون والحياة، والنفوس المفرغة عن الشر لتعمر بالخير والمحبة وصدق المعاملة مع الله ومع عباده، حتى إذا استقامت هذه القوّة كلها على طريقة الحق وأشرق عليها الإيمان بنوره، كملت إنسانية الإنسان وصلح الفرد، فصلحت الجماعة المؤلّفة من الأفراد، فصلحت الدولة المركبة من الجماعات.

وانحدر الإسلام في شمال افريقيا- والجزائر هي قلبه دائمًا- مع تاريخه مرّة يضعف ومرّات يقوى، ولكنه محتفظ دائمًا بسلطانه على النفوس، ومن آثار ذلك السلطان القاهر ما نراه من آثار العقول في ازدهار العلوم والآداب وكثرة التآليف وظهور النوابغ فيهما، خصوصًا في ما قبل الألف، وما نراه من آثار الأيدي المفتنّة في المساجد والمدارس والحصون والقصور، وما نراه من أثر الهمم في الأوقاف الدارة على تلك المساجد والمدارس، وعلى وجوه الخير وسبله المتنوعة من تنشيط العلم وتعميمه، وتخفيف البؤس عن البائسين، وتسليح المرابطين وتزويدهم، وصيانة اليتامى ورعاية المنقطعين، ومعالجة المرضى، بحيث لم تبق حاجة من حاجات المجتمع لم تتناولها همم المحسنين بالسد والكفاية من هذه الأوقاف، وكانوا أذكى المنتبهين لخطر الآفات الثلاث المبيدة للشعوب: الجهل، والفقر، والمرض، فوضعوا للوقاية منها أسدادًا من الأوقاف، ومن اطلع على رواية المؤرخين وترجماتهم ورأى بقايا الوثائق الوقفية المسجونة في مكاتب الاستعمار بالجزائر، عجب لما

<<  <  ج: ص:  >  >>