للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عن الأفراد والجماعات من أعمال، وكان من وراء الجهاز الحكومي طوائف من الفقهاء الشعبيين المتضلعين في فقه الأحكام أصولًا وفروعًا، الآخذين من فضائل علماء السلف بالنصيب الأوفى، فكان هؤلاء العلماء هم حراس الإسلام وأحكامه، يقوّمون بنفوذهم العلمي كل من زاغ عن سبيله من حاكم ومحكوم، وكانوا من استقامتهم بحيث لا يغضبون إلا لله ولا يرضون إلا لله، وكانوا من سعة السلطان على الجماهير بحيث يخشى غضبهم ويرجى رضاهم، وكانوا بوحدة المذهب السائد في الفروع- وهو مذهب مالك- في مأمن من اختلاف الرأي أو الاختلاف في الحكم، وهي خصوصية قلّ أن توجد في غير شمال إفريقيا، وبالجملة فقد كان هذا الطراز من العلماء الشعبيين هو ميزان الاعتدال في الجزائر وهو المسير الحقيقي للدولاب الحكومي والاجتماعي.

فماذا صنع الاحتلال الفرنسي من أول يوم؟ بدأ بخطة كانت مرسومة من قبل وكشف عن مقاصده المبيّتة للإسلام بعد أسابيع من احتلال الجزائر العاصمة، ولم ينتظر انتهاء الحركات العسكرية التي طالت عشرات السنين، كأن به شوقًا مبرحًا إلى الانتقام من الإسلام وإطفاء ما يكنّه من حقد عليه: بدأ بمصادرة الأوقاف الإسلامية بجميع أنواعها في العاصمة وإلحاقها بأملاك الدولة المحتلّة، وأصدر قانونًا بتعميم المصادرة في كل شبر يحتلّه، ثم عمد إلى المساجد فأحال بعضها كنائس، وبعضها مرافق دنيوية عامة، وهدم بعضها لإنشاء الشوارع والميادين. بدأ بهذا في العاصمة ثم عمّمه بعد استقرار الأمر له في جميع القطر، ثم عمد إلى المساجد الباقية فاحتكر التصرّف فيها لنفسه واستأثر بتعيين الأئمة والخطباء والمؤذّنين والمفتين، وأجرى عليهم الأرزاق من خزينته العامة ليبقوا دائمًا تحت رحمته، فلا يقدم لوظيفة من هذه الوظائف إلا من يجري في عنانه ويتوخّى رضاه ويخدم مصالحه ولو خرب الدين وكان أجهل بالإسلام من إنسان المجاهل.

وأمر الاستعمار الفرنسي على هذا إلى هذا اليوم، وله أعمال من دون ذلك هو لها عامل وكلها تتلاقى عند غاية قدّرها، وهي محو الإسلام من الجزائر حتى تصفو له، فتنسى دينها ولغتها وتاريخها وأمجادها وعروبتها وشرقيتها، وتصبح فرنسية الهوى والعاطفة والفكر واللسان والاتجاه، فيتخذ منها امتدادًا لوطنه وأمدادًا لتوسعه. ومن مكائده الخفية لمحو الإسلام تشجيعه للخرافات والبدع والضلالات الشائعة بين مسلمي الجزائر لعلمه أنها تفسد عقائد الإسلام الصحيحة، وتحبط عباداته، وتبطل آثارها، وتخلط الموازين، فتلتبس السنّة بالبدعة والفضيلة بالرذيلة والحق بالباطل، وعقيدة الحق إذا شابها ثوب الباطل أبطل أثرها في صفاء الأرواح، وعبادة الحق إذا لبسها الضلال بطل تأثيرها في تصفية النفوس، والفضيلة إذا مازجتها الرذيلة بطلت خاصيتها في تكوين الجماعات الفاضلة.

<<  <  ج: ص:  >  >>