للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الجزائر المجاهدة *

لو قسمت حظوظ الجهاد بين الأمم لحازت الجزائر قصبات السبق، ونطلق الجهاد على معناه الواسع الذي يقتضيه اشتقاقه من الجهد، ولنبدأ بمعناه الخاص وهو جهاد العدوّ الأجنبي المغير على الوطن، وقد وضع الله الجزائر في موضع يدعو إلى الجهاد وعلى وضع يدعو إلى الجهاد، فموضعها الضفة اليسرى للبحر الأبيض للمتّجه إلى المغرب، ووضع الأمم اللاتينية على الضفة اليمنى والبحر بينهما يضيق إلى عشرات الأميال كما بين صقلية وبنزرت في تونس، ويتسع إلى مئات الأميال كما بين مدينتَي الجزائر ومرسيليا، والأمم اللاتينية أمم مطامع وفتوح وكبرياء ودماء منذ كانوا، لم يزدها الدين المسيحي السامي الروح إلا ضراوة بذلك لأن طبيعتها المادية المتكالبة غلبت طبيعته الروحية المتسامحة وبذلك أصبح دينًا رومانيًا لا شرقيًا.

والأمّة الجزائرية هي بعض جزء من البربر في القديم وبعض جزء من العرب في الحديث، وكلتا الأمّتين لها خصائص متقاربة في الإباء والحفاظ والأنفة واعتبار الحمى عرضًا تجب الموت دونه، وفي معنى السخاء الذي يبتدئ بالمال ويعلو فينتهي بالروح، والجود بالروح أقصى غاية الجود.

وجاء الإسلام فأخرج من المزاج المشترك بين العنصرين مزاجًا ثالثًا وقوّى معى الحمى والعرض والحفاظ وهي المعاني التي كان يتهالك العرب ويتفانون لأجل حمايتها إلى معنى روحاني أعلى وأسمى وهو الجهاد دفاعًا وهجومًا لإعلاء كلمة الله. وكلمة الله هي نشر العدل والإحسان في الأرض ونشر الخير والمحبة في نفوس أهل الأرض.

هذا المزاج المتحدّر من الخصائص الفطرية التي زادها الإسلام تثبيتًا وأولاها عناية وغربلة، هو الذي ترك الأمّة الجزائرية أمّة جهاد بجميع معانيه، وعلى هذا المعنى يجب أن يبني المؤرّخ تاريخ الجهاد النفسي في هذه الأمّة.


* حديث أُلقي بإذاعة "صوت العرب" بالقاهرة، عام ١٩٥٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>