للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فاحكموا- رعاكم الله- هل يبقى لأمّة تساس بمثل هذه القوانين شيء من الكرامة الإنسانية، وهل يبقى لحكومة تسوس من أوقعهم القدر في قبضتها بمثل هذه القوانين، شيء من الاعتبار الإنساني؟ ولو كان لأحفاد أولئك الاستعماريين الذين شرعوا تلك القوانين ونفّذوها شيء من عرفان القيمة الشخصية لذابوا خجلًا من أعمال آبائهم وأجدادهم، ولتبرّأوا من الانتساب إليهم، وليعذرونا حين نقول فيهم هذا الكلام، فإن أجدادهم وآباءهم هم الذين سنّوا لنا قانون (الضمان المشترك) فإذا حملناهم ضمان ما اجترح آباؤهم فلنا في آبائهم أسوة سيّئة، والبادي أظلم، على أن أعمال هؤلاء الأحفاد أفظع وأشنع وأسوأ أثرًا، ولكنها بأسماء أخرى، وفي صور أخرى.

ثم اعجبوا- أسعدكم الله- لإخوانكم العرب المسلمين الجزائريين كيف احتفظوا بمميزاتهم من جنس ولغة ودين، مع هذا البلاء المبين، لعمركم ... إنهم ما احتفظوا بذلك إلا لخصلتين لا تنعدم الشعوب مع وجودهما: أصالة العرق، ومتانة العقيدة، وأخوكم الجزائري يضيع كل شيء حين يأخذ البلاء منه مأخذه، ولكنه لا يضيع هاتين ولو جهد البلاء جهده، وأصالة العرق هي التي حمته من الذوبان، ومتانة العقيدة هي التي حفظت عليه صلته بالله فلم تنقطع، وصلته بالشرق فلم يتغرّب. ولو أن شعبًا غير الشعب الجزائري أصيب بمثل ما أصيب به من الاستعمار الفرنسي لَلَحِق بطسم وجديس.

ـ[المرحلة الثالثة]ـ:

كل ما أصاب الأمّة الجزائرية من وهن وفتور واستكانة للعدوّ المستعمر فقد أصابه في المرحلة الثانية، وبسبب السياسة الاستعمارية وقوانينها التي ذكرناها، وجاءت حرب ١٤ - ١٨ فنقلت الجزائري من طور إلى طور.

فقد اندلعت الحرب العالمية الأولى، والجزائري على ما أجملنا وصفه، ولكنها انتهت والجزائري على حالة غير التي كان عليها، فكانت تلك الحرب بالنسبة للحالة الفكرية النفسية رحمة عليه، فكأنها مدرسة علّمت وربّت، أو حمّام رَحَضَ وطهَّر، وخرج منها بشعور جديد، وتطوّر غريب، ووجدان صحيح، وعرفان بقيمة نفسه، وما هذا بالشيء القليل على الجزائري الذي كان بالأمس "أنديجانًا" فأصبح بفضل تلك الحرب إنسانًا، ولا يفقه قيمة ما نقول إلا من عرف الجزائري في أمسه، ثم عرفه في يومه، وقارن بين حالين في زمنين.

وأسباب هذا التطور ترجع إلى الأشياء الآتية، ومنها ما هو متداخل ولكننا نعددها للتوضيح.

<<  <  ج: ص:  >  >>