للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والقبائل والمجموعات الحزبية تبقى على الدهر، وفي هذا من الفوائد للاستعمار إلهاء الأمة بغير المفيد عن المفيد، وغرس لأسباب العداوة بينها حتى يشتغل بعض أبنائها ببعض ويستريح الاستعمار، وما رأينا سببًا من أسباب العداوة يدوم وتبقى آثاره- حتى القتل- مثل ما تبقى آثار العداوات الناشئة عن الانتخابات النيابية بالجزائر.

تفطن الاستعمار المتدسّس في خبايا النفوس إلى هذه النقطة وعلم خيرها له، فاتّخذ منها أداة جديدة للتفريق والتمزيق، حينما علم أن الذهن الجزائري تطوّر، وأن النزعة الوطنية بدأت في الظهور، وأنه سيعقبها تيّار وطني جارف، وأن الأمر سيؤول إلى اتحاد سياسي يقتضيه اتحاد المقوّمات من جنس ولغة ودين، فرمى الجزائر بهذه النكبة المفرقة المشتتة للشمل، وهو على بيّنة من أمرها وعلى يقين من آثارها السيّئة في الأمم الضعيفة، وزاد في ضرر هذه النكبة أنه لا يشترط في المرشّح الأهلي للنيابة أن يكون عارفًا للقراءة والكتابة، وأن الحكومة الاستعمارية تتدخّل بالترغيب والترهيب، لفوز أتباعها وأنصارها، وقد تتدخل أحيانًا بقوة البوليس والسلاح، وقد أدّى هذا التدخّل مرّات إلى سفك الدماء، وقد تتعمّد كثيرًا تزوير الانتخابات، بل لم تخلُ من التزوير ولا مرة، فإذا اتفق فوز واحد أو اثنين من خصومها البارزين فذلك لتدفع عن نفسها العين، وتذرّ الرماد في الأعين، ولتتخذ من ذلك دليلًا على حرية الانتخابات، وأن عدد النوّاب الأهليين لا يزيد عن الثلث في جميع المجالس، في جنب ثلثين من الأوربيين الأحرار القارئين الكاتبين، وأكثرهم من المثقفين ثقافة عالية، العارفين بوجوه المصالح، وقد عدّل في السنوات الأخيرة قانون التحديد بالثلث، فارتفع إلى الخمسين في جنب ثلاثة أخماس من الأوربيين، ثم جاء الدستور الجزائري الأعرج الذي سنتحدّث عنه فساوى في العدد بين أعضاء المجلس الجزائري من العنصرين، لا إنصافًا للعنصر الأهلي، ولكن اعتمادًا على حكومة الجزائر (٦) التي برعت في تزوير الانتخابات الأهلية حتى أصبحت تضرب بها الأمثال في ذلك، خصوصًا وأسلحة الترغيب والترهيب كلها في يدها، والعارف بدخائل الحكومة الجزائرية يعلم أنه لا معنى لتنصيص الدستور الجزائري على العدد، ما دام العدد لا مفهوم له في أصول تلك الحكومة، حتى لو أن القانون أعطى للجزائريين تسعة أعشار الكراسي النيابية وأعطى للأوربيين العشر لكان التسعون كلهم من أنصار الحكومة، وقد يكونون أجدى عليها بفضل تلك البراعة في التزوير، وبفضل حسن اختيارها للأنصار، ومع إخلاص من تختارهم لها فإنها تبالغ في الاستيثاق منهم فتشترط عليهم قبل الترشيح أن يمضوا نسخة استعفاء بخطوطهم من غير تاريخ، فإذا نطق أحدهم بما يخالف مصلحة الحكومة ولو غلطًا، أو تظاهر بمؤازرة النوّاب الأحرار ولو بإشارة، أو سكت حيث يجب أن يتكلم في تأييدها أو تغيّب عن جلسة مما يحتشد فيه أنصارها- أَرَّخَتْ تلك النسخة ونشرتها- فيصبح


٦) حكومة الجزائر / الحكومة الجزائرية: الولاية العامة الفرنسية.

<<  <  ج: ص:  >  >>