للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والجدال والوفاق والخلاف، وذلك المخض هو الذي ينشئ فيها الحياة ثم يصفيها، وهو دليل حياة الشعور فيها، وقد سكتت الأمة الجزائرية قبل ذلك أكثر من أربعين سنة ... سكتت ألسنتها وسيوفها في آن واحد فما زادها طول السكوت إلا جمودًا وخمودًا وقربًا من الموت، واستمرّت الإرهاصات تتوالى، وأصوات الإصلاح تتعالى، والأذهان تستشرف وتستعدّ، والقوى النفسية كلها تتقارب وتحتشد، إلى أن احتفلت فرنسا بعيدها المئوي لاحتلال الجزائر سنة ١٩٣٠.

[عيد فرنسا المئوي لاحتلال الجزائر]

وشمّرت حكومة الجزائر الاستعمارية عن ساعدها لتحتفل بمرور مائة سنة على احتلال الجزائر، وبكّرت في أخذ الأهبة والاستعداد بشهور قبل حلول اليوم الموافق ليوم بدء الاحتلال وبثّت له الدعاية بجميع وسائلها في العالمين وقدّرت لبرنامج المهرجانات ستة أشهر، وصوّر لها غرورها أنها تخرج من هذا العيد بفوائد مادية جسيمة مما تسيل به جيوب الملايين من أطراف العالم، وممن تجلبهم الدعاية لهذا العيد، وفوائد معنوية عظيمة، منها شهادة العالم لها بما نشرت من مدنية، في حين أنها لم تنشر في الجزائر شيئًا من المدنية، وإنما نشرت الأخلاق الدنية. أما الطرق التي عبّدتها فإنما هي لتمكين أبنائها من الاستغلال، وعلى قدر ذلك الاستغلال، أما الأهلي صاحب الدار فحظه منها أن لا يمشي على رجليه فيها إلا بالإيجار الباهظ وهو ما يدفعه من الضرائب باسم الطرقات، وأراد الله أن لا يصحب تصوّر حكومة الجزائر تصديق، فلم يفد على الجزائر من الأجانب عشر ما كانت تتصوّره، وخسرت التقديرين.

أما نحن- وأعني تلك الفئة القليلة ومن التفّ بنا من تلاميذنا- فقد بكّرنا أيضًا بدعوة مضادة لهذا العيد، وبثثنا عليه في الأمة كل مكروه، وكان كلامنا مع الأمة كله يدور على معنى هذه الجملة: "أيها الجزائريون: إن هذا العيد هو عرس فرنسا في مأتمكم، وهو تذكير بقتلهم لآبائكم، وبكل ما صاحب الاحتلال من انتزاع أرضكم وانتهاك عرضكم، وهو إشهاد للأمم على قهركم وإذلالكم وتسجيل عليكم بذلك".

كنا ندير هذه المعاني ونكرّرها لتنفذ إلى مواقع التأثير من نفوس إخواننا، ونعزّزها بكل ما يثير النخوة والحفيظة ويحيي العزة والكرامة، فامتلأت النفوس غضبًا وحقدًا، وبلغنا نحن غايتنا في تذكير من طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، ولا غاية أكمل من ذلك في ذلك الوقت، وكان من آثار عملنا أنه لم يشارك فرنسا في عيدها من الجزائريين إلاّ الموظفون والمخذولون وأصحاب المصالح المادية، وحتى النظارة (المتفرجون) لم يكن لهم أرب في النظر إلا تصديق المعاني التي أثبتناها لهم في دعايتنا المضادة للعيد، وقاطعنا نحن مدينة

<<  <  ج: ص:  >  >>