للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

علمت أن هذه الثورة هي الموقف الأخير مع فرنسا، وهو- كما يقولون- موقف حياة أو موت، فكل عزيز يهون في سبيل الشرف والحرية، وإذا هانت الأرواح في هذا السبيل فالأموال أهون مفقود.

الثورة تستدعي نفقات طائلة لتسليح المجاهدين وكسوتهم وإطعامهم وغير ذلك من الأشياء التي كانت كمالية فأصبحت في هذا العصر ضرورية كالدعاية ووسائلها المتنوّعة، ومن ثمّ كان العبء ثقيلًا على الشعب الجزائري، وهو يزداد ثقلًا بطول أمد الثورة، ولكن إيمان الشعب الجزائري وبأسه من رجوع الاستعمار الفرنسي عن غيّه، واعتقاده الجازم بلؤمه وكذبه وإخلافه للوعود المَرَّة بعد المَرَّة وعدم خجله من الخزي والموبقات أوقفه موقف التصميم على الموت، الذي هو خير ألف مرة مما يسومه الاستعمار كل يوم من الموت المُجَزَّإ البطيء، ولذلك فكل ما يلقاه من فنون التعذيب والسجون والتشريد، وهتك الحرمات والترحيل من الديار، والإبادة الجماعية وتقتيل الأطفال والنساء والعجائز- الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلاً- يجده هينًا حلوًا سائغًا.

وعين الاستعمار يَقْظى، فهو ينظر دائمًا إلى النهايات والعواقب ويحتاط لها، ولا يبالي في سبيل الاحتياط بحق يُهدَر، ولا بمَأْثَم يُرتَكب لأن الاستعمار كله مآثم، ولذلك فهو قد بَنَى أمره- من أول يوم احتلّ فيه الجزائر، وبَلَا من الجزائريين المقاومة التي لا تخضع بالسهولة والصلابة التي لا تلين بصَلْي الحرب- على الوسائل التي تضمن له البقاء أو طول البقاء، ورأى أن التجريد من سلاح الحديد والنار لا يضمن العاقبة، فعمد- على مرّ الزمن- إلى محاولة تحطيم الأسلحة المعنوية بوسائل يعجز عنها الشيطان، فحارب الإسلام ومساجده، واغتصب أوقافه، وحارب العربية لأنها تذكي القومية أو تذكر بها على الأقل، وحارب العلم بجميع أنواعه، وسطر سياسته مع الجزائريين في لفظين: "التفقير والتجهيل"، وقد تمّ للاستعمار على طول المدة بعض ما أراد من ذلك، لولا مواريث في فطرة الجزائري سارية في دمه، هي بعض وجوده أو هي سرّ وجوده من حب الإسلام واعتدادٍ به، ومن فخر بالعروبة واعتزازٍ بها، ومن صبر على الضيم يخاله المنقّب في أسرار الطبائع استكانة وما هُوَ بِها، وإنما هو تربّص بالانتقام، وتحفّز للوثبة، فهذه الأخلاق هي التي حفظت الجزائري من التفتّت والذوبان رغم إلحاح البلاء وتفنّن الاستعمار في تلوينه بما يُوهِم أنه نعمته، كمن يَسْقي السمّ ويُقْسِم أنه ماء الحياة.

ولم يكف الاستعمار الفرنسي ما سَنَّ من قوانين لتفقير الشعب الجزائري العربي المسلم ليأمن وثْبَتَه يومًا ما، وما خطط من برامج لحرمانه من وسائل الإثراء حتى سلّط عليه من أسباب الإبادة البطيئة ما ينقص من أعداده من أمراض لا تجد العناية للوقاية منها قبل الوقوع، ولا العناية بدفعها بعد الوقوع، ومن مجاعات مصطنعة مقصودة في وطن

<<  <  ج: ص:  >  >>