للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المخلصين، ومع إخلاص هؤلاء الأتباع فإنها تحيطهم بسياج من الجاسوسية ولا تسافر قافلة الحج إلّا تحت رئاسة حاكم إداري استعماري من الطراز الأول يبقى في جدة ويدخل جواسيسه من الحجاج إلى الحرمين وهو متصل بهم في كل دقيقة.

هذه جوانب بارزة من ثورة فرنسا المستمرة علينا، وهي حقائق يراها كل جزائري، ولكننا ضربناها أمثلة وأقمناها شواهد، وبعدها فروع تتناول جزئيات حياتنا الفكرية والعقلية والمادية ... فانظروا هداكم الله كيف تحيا أمة على قوانين جائرة يضعها عدوها ولم يشركها في وضعها ولا تنفيذها.

ومن أسباب هذه الثورة من فرنسا علينا أننا عرب، وأقوى أسبابها أننا مسلمون، وأننا لم ننس الوشائج المتشابكة بيننا وبين بني أبينا في الشرق العربي، وبيننا وبين إخواننا في الشرق الإسلامي، وأننا نؤمن بالقومية العربية إيمانًا راسخًا ونفخر بها فخرًا طالما أطار صواب رجال الاستعمار، ولحقنا بسببه من الأذى ما لا يعلمه إلّا الله، وأننا نولي وجوهنا شطر البلاد العربية التي هي مشرق ديننا، ومجتمع أنسابنا، والصفحة الأولى التي خط عليها تاريخنا.

فما بال فرنسا حاضنة الإنسانية بزعمها، وحامية الحضارة الإنسانية في دعواها، تضيق ذرعًا بثورتنا عليها أربع سنوات، ويطيش صوابها إلى درجة الجنون، فتسوق علينا الجيوش الجرارة بالأسلحة الفتاكة، وتتدلى بأخلاقها إلى الوحشية، فتعذّب الأبرياء فنونًا من العذاب لا تخطر على بال، ثم تقتلهم بطريقة يتبرأ منها الوحش الضاري الموكول إلى غرائزه، ثم تمعن في تقتيل الأمهات الحوامل والأطفال والعجزة الذين تحرم قتلهم قوانين السماء وقوانين الأرض، مما يدل دلالة قاطعة على أنها مصممة على إبادة الجزائريين.

من هنا يأخذ العلماء والأخلاقيون الدليل على أن الشر أصيل، وأن حديث الخير والمدنية والعلم في الشعب الذي تنبت فيه هذه الموبقات حديث خرافة.

صحيح أن الاستعمار يكون استغلالًا في أول أمره، ثم ينقلب التذاذًا بالتسلط والاستعباد في وسط أمره، فإذا بلغ أشده أصبح سعارًا كالكلب المكلوب، ثم يصبح مرضًا عضالًا في أهله لا ينفع فيه علاج، والحكيم كل الحكيم هو من يكتشف دواء لداء الاستعمار في نفوس الاستعماريين، فهو والله أخطر وأشد فتكًا بالبشرية من داء السل والسرطان، وإنني أتلمح أن داء الاستعمار أيسر علاجًا من السل والسرطان، وانه لو تداعى عقلاء الأمم وأطباؤها الروحانيون وأخلصوا في مكافحته لاجتثوه من أصوله.

كانت ثورة الجزائر من أول يوم تحمل في ما تحمل من معان أنها ليست ثورة على فرنسا من حيث أنها دولة، ولا على الفرنسيين من حيث أنهم أمة، فنحن أعقل من أن نثور ثورة مستميتة على حكومة أو على جنس كيفما كانت تلك الحكومة أو ذلك الجنس، ونحن

<<  <  ج: ص:  >  >>