للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم تأتي المرحلة الثانوية تتوسّع لهم في القواعد والتراكيب التي تقوّي ملكاتهم وتنفيها، ونتساهل قليلًا في إدخال الألفاظ الأعجمية في علوم الطب والكيمياء وسائر العلوم الكونية الداخلة في منهاج التعليم الثانوي، إن كانت تلك الألفاظ اصطلاحية عامة وضرورية، وليس لها مرادف عربي، أو تفسّر لهم بما يقاربها ولو بجمل، وأن يمرّنوا على الخطابة ويكلّفوا بإلقاء محاضرات قصيرة تنتقَى لها الألفاظ والتراكيب، وأن تفرض عليهم مطالعة كتب مختارة فصيحة، بليغة، سهلة، لترسخ فيهم الملكة العربية، وألا تكثر لهم حصص اللغات الأجنبية حتى لا تتصادم اللغات في أذهانهم فينشأوا ضعافًا في الكل، فيبنغي أن نفهم نحن ويفهم أبناؤنا أن اللغة العربية هي رأس المال الذي تجب المحافظة عليه، وأن اللغات الأجنبية هي ربح فلا تعطى من العناية ولا من الوقت إلا ما لا يزاحم لغتنا الأصيلة، ولا يبتليها بالضعف، ولا يمسّ قدسيتها عندنا.

ثم تأتي مرحلة التعليم العالي فتكون الملكة العربية قد استحكمت في التلميذ وتمّ "تعريبه" على أكمل وجه، فإذا توسّع في اللغات الأجنبية فلا يخشى عليه انتكاس ولا تراجع، ولا استعجام، لأن لسانه أصبح عربيًّا، يؤيّده فكر عربي، وعقل عربي، فلا تزاحمه لغة أخرى مهما توسّع في أصولها وفروعها، ولأن أفكاره وتصوّراته الذهنية أصبحت كلها عربية، يملك تصويرها والتعبير عنها باللغة العربية بسهولة. وإن هذا هو موضع الخطر على أبنائنا المتعلمين بلغة أجنبية من غير أن يسبق لهم إلمام بلغتهم. ذلك أنهم يحملون في أنفسهم، ككل البشر، تصوّرات ومعاني كثيرة وحقائق علمية وتخيلات ذهنية، ولا يستطيعون بيانها والتعبير عنها بلغتهم العربية في حال أنهم يستطيعون التعبير عنها باللغة الأجنبية التي يتقنونها، فأدّت بهم هذه الحالة بالتدريج إلى كراهية العربية، وانتهت بهم إلى بغضها، ثم إلى الحقد عليها واتهامها بأنها لغة قاصرة، ضعيفة، أو ميتة، لا تستطيع أن تزاحم اللغات، أو تقوى على حمل الحضارات، ثم تنتهي بهم هذه الحالة إلى الانسلاخ من العروبة، وإلى احتقار الدين الذي تترجم عنه هذه اللغة، وذلك هو الضلال البعيد، وفاتهم أن هذه العيوب التي نحلوها للعربية هي بريئة منها، وأن العيب فيهم وحدهم إذ لم يتعلّموا لغتهم، ولم يفقهوا أسرارها ولم يتذوّقوا بيانها، ومن جهل شيئًا عاداه.

وبتعريب المدرسة من الكتّاب إلى الجامعة، وتعريب التعليم من المعلّم إلى الكتاب نكون قد عرّبنا جماعة تقوم بتعريب الجماعات وتعريب الاجتماع وتعريب البيوت، وإن أكبر عقبة تلقانا في هذا الطور هي تعريب المعلم، فيجب أن نحتاط لها وألا نكل تعريب أبنائنا إلى معلم غير معرّب، ونحن نتوقع أن نقع في هذه النقطة في ما يشبه الدَّوَرْ، ولكننا نستطيع الانفكاك عنه بحزم الحكومات، وإدرار النفقات. فعلى الحكومة وعلى وزارة المعارف المختصة أن تبدأ هذه المرحلة بتأليف الكتب الابتدائية ووضعها على ما يوافق مناهج

<<  <  ج: ص:  >  >>