للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وشرع الشيخ بعد رجوعه من أول يوم في تنفيذ الخطوة الأولى من البرنامج الذي اتفقنا عليه، ففتح صفوفًا لتعليم العلم، واحتكر مسجدًا جامعًا من مساجد قسنطينة لإلقاء دروس التفسير، وكان إمامًا فيه، دقيق الفهم لأسرار كتاب الله، فما كاد يشرع في ذلك ويتسامع الناس به حتى انهال عليه طلاب العلم من الجبال والسهول إلى أن ضاقت بهم المدينة، وأعانه على تنظيمهم وإيوائهم وإطعام المحاويج منهم جماعة من أهل الخير ومحبّي العلم، فقويت بهم عزيمته وسار لا يلوي على صائح، واشتعلت الحرب العالمية الأولى وهو في مبدإ الطريق، فاعتصم بالله فكفاه شرّ الاستعمار، وكان له من وجود والده درع وقاية من بطش فرنسا التي لا تصبر على أقلّ من هذه الحركات، وكان لوالده مقام محترم عند حكومة الجزائر، فسكتت عن الابن احترامًا لشخصية الوالد، وظهرت النتائج المرجوّة لحركته في السنة الأولى، وكانت في السنة الثانية وما بعدها أكبر وعدد الطلبة أوفر، إلى أن انتهت الحرب، ورجعت أنا إلى الجزائر فلقيني بتونس، وابتهج لمقدمي أكثر من كل أحد لتحقيق أمله المعلّق عليّ، وزرته بقسنطينة قبل أن أنقلب إلى أهلي، ورأيت بعيني النتائج التي حصل عليها أبناء الشعب الجزائري في بضع سنوات من تعليم ابن باديس، واعتقدت من ذلك اليوم أن هذه الحركة العلمية المباركة لها ما بعدها، وأن هذه الخطوة المسدّدة التي خطاها ابن باديس هي حجر الأساس في نهضة عربية في الجزائر، وأن هذه المجموعة من التلاميذ التي تناهز الألف هي الكتيبة الأولى من جند الجزائر، ولمست بيدي آثار الإخلاص في أعمال الرجال، ورأيت شبانًا ممن تخرّجوا على يد هذا الرجل وقد أصبحوا ينظمون الشعر العربي بلغة فصيحة وتركيب عربي حرّ، ومعان بليغة، وموضوعات منتزعة من صميم حياة الأمّة، وأوصاف رائعة في المجتمع الجزائري، وتشريح لأدوائه، ورأيت جماعة أخرى من أولئك التلامذة وقد أصبحوا يحبرون المقالات البديعة في الصحف، فلا يقصرون عن أمثالهم من إخوانهم في الشرق العربي، وآخرون يعتلون المنابر فيحاضرون في الموضوعات الدينية والاجتماعية، فيرتجلون القول المؤثّر، والوصف الجامع، ويصفون الدواء الشافي بالقول البليغ.

وحللت بلدي وبدأت من أول يوم في العمل الذي يؤازر عمل أخي ابن باديس ... بدأت أولًا بعقد الندوات العلمية للطلبة، والدروس الدينية للجماعات القليلة، فلما تهيّأت الفرصة انتقلت إلى إلقاء الدروس المنظّمة للتلامذة الملازمين، ثم تدرّجت لإلقاء المحاضرات التاريخية والعلمية على الجماهير الحاشدة في المدن العامرة والقرى الآهلة، وإلقاء دروس في الوعظ والإرشاد الديني كل جمعة في بلد، ثم لما تمّ استعداد الجمهور الذي هزّته صيحاتي إلى العلم، أسّست مدرسة صغيرة لتنشئة طائفة من الشبان نشأة خاصة وتمرينهم على الخطابة والكتابة وقيادة الجماهير بعد تزويدهم بالغذاء الضروري من العلم، وكانت أعمالي هذه في التعليم الذي وقفت عنايتي عليه فاترة أحيانًا لخوفي من مكائد

<<  <  ج: ص:  >  >>