للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اخواني بواسطة رسل ثقات، وكنت حين بدأت نذر الحرب تظهر وغيومها تتلبد أجتمع بالشيخ ابن باديس في داري بتلمسان فقررنا ماذا نصنع إذا قامت الحرب، وقررنا من يخلفنا إذا قبض علينا، وقلبنا وجوه الرأي في الاحتمالات كلها، وقدرنا لكل حالة حكمها، وكتبنا بكل ما اتفقنا عليه نسختين، ولكن كانت الأقدار من وراء تدبيرنا فقبضه الله إليه. بقيت في المنفى ثلاث سنين تقريبًا، ولما أطلق سراحي من المنفى أول سنة ثلاث وأربعين كانت فاتحة أعمالي تنشيط حركة إنشاء المدارس، فأنشأت في سنة واحدة ثلاثًا وسبعين مدرسة في مدن وقرى القطر كله، كلها بأموال الأمة وأيديها، واخترت لتصميمها مهندسًا عربيّا مسلمًا فجاءت كلها على طراز واحد لتشهد للأجيال القادمة أنها نتاج فكرة واحدة.

وتهافتت الأمة على بذل الأموال لتشييد المدارس حتى أربت على الأربعمائة مدرسة، ولم أتخل بعد رئاستي للجمعية وخروجي من المنفى عن دروسي العلمية للطلبة وللعامة، ولما رأت فرنسا أن عقابها لي بالتغريب ثلاث سنوات لم يكف لكسر شوكتي، وأنني عدت من المنفى أمضى لسانًا وقلبًا وعزيمة مما كنت، وأن الحركة التي أقودها لم تزدد إلّا اتساعًا ورسوخًا، انتهزت فرصة نهاية الحرب ودبرت للجزائر ثورة مفتعلة فقتلت من الشعب الجزائري المسلم ستين ألفًا، وساقت إلى المعتقلات سبعين ألفًا معظمهم من أتباع جمعية العلماء، وألقت بي في السجن العسكري المضيق تمهيدًا لمحاكمتي بتهمة التدبير لتلك الثورة، فلبثت في السجن سنة إلّا قليل، ثم أخرجوني بدعوى صدور عفو عام على مدبري الثورة ومجرميها وكان من "زملائي" في السجن الدكتور شريف سعدان- رحمه الله-، والصيدلي فرحات عبّاس والمحامي شريف حاج سعيد وغيرهم.

ولما خرجت من السجن عدت إلى أعمالي أقوى عزيمة مما كنت، وأصلب عودًا وأقوى عنادًا، وعادت المدارس التي عطلتها الحكومة زمن الحرب، وأحييت جميع الاجتماعات التي كانت معطلة بسبب الحرب، ومنها الاجتماع السنوي العام، وأحييت جريدة «البصائر» التي عطلناها من أول الحرب باختيارنا باتفاق بيني وبين ابن باديس لحكمة، وهي أننا لا نستطيع تحت القوانين الحربية أن نكتب ما نريد، ولا يرضى لنا ديننا، وهمتنا، وشرف العلم، وسمعة الجمعية في العالم، أن نكتب حرفًا مما يراد منا، فحكمنا عليها بالتعطيل وقلنا: بيدي لا بيد عمرو، وحسنًا فعلنا، كذلك عطلنا مجلة "الشهاب" الناشرة لأفكار الجمعية.

ولما قررنا إحياء جريدة «البصائر» ألزمني إخواني أن أتولى إدارتها ورئاسة تحريرها فقبلت مكرهًا، وتضاعفت المسؤوليات، وثقلت الأعباء، فرئاسة الجمعية وما تستلزم من رحلات وما يتبع الرحلات من دروس ومحاضرات، كل ذلك كان يستنزف جهدي، فكيف إذا زادت عليها أعباء الجريدة وتحريرها؟ ولكن عون الله إذا صاحب امْرأً خفت عليه الأثقال.

<<  <  ج: ص:  >  >>