للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما اننا لا نكبر هذا اللقب فلأننا لم نكبره يوم كانت تعطيه المؤهلات الحقيقية، ولمنحه الرأي العام العلمي. فيقال شيخ الإسلام "ابن القيم" وشيخ الإسلام "ابن حجر" مثلًا فما أغنى هذا اللقب عندنا عن الأول معشار ما أغنى عنه (إعلام الموقعين) وغيره من كتبه، ولا أغنى عن الثاني معشار ما أغنى عنه "فتح الباري" وغيره من آثاره، فكيف نكبره الآن وحاله هي حاله؟

وإن هذا اللقب في أمثال "ابن القيم" ليؤدّي معنى الائتمان على حقائق الإسلام أن تقلب، وعلى عصابة نصره أن تغلب، ومعنى الاحتفاظ على أوضاعه أن تغير، وعلى دلائله الصريحة أن تزور، فيقال في السنّة إنها بدعة، وفي البدعة إنها سنّة، ويقال في دين الله: إن عمل الناس اليوم جرى ... فشيخ الإسلام من هؤلاء هو ناشر حقائق الإسلام في المسلمين إرضاء لله لا ناشر أهواء المسلمين في الإسلام إرضاء لهم ... وسبحان من رفع قدر الإسلام على الأديان حتى في المواضعات العرفية التي تقال على التوسع والتساهل لا على الدقة والتحديد.

أتدرون ما معنى هذا؟

معناه أن الناس يقولون في إطلاقاتهم العرفية "حاخام اليهود" ولا يقولون حاخام اليهودية، ويقولون "بطريرك النصارى" ولا يقولون بطريرك النصرانية. فإذا جاءوا إلى الإسلام قالوا: "شيخ الإسلام" ولم يقولوا شيخ المسلمين، مع أنهم قالوا قديمًا أمير المؤمنين.

إنني أؤمن بأن هذه الأوضاع اللفظية لم ترسل على ألسنة الناس عبثًا، وبأنها اندفعت من أفواههم بسائق وجداني من نفوسهم يؤيّده الواقع، وبشعور متمكّن فيها بأن كلًا من "الحاخام" والبطريرك يسوس أمّة بدين يكيفه على أهوائها ويؤثر رضاها على رضاه، وبأن شيخ الإسلام يسوس أمة بدين ثابت الأساس يحكمه في طباعها لتأتلف، ولا يحكمها في أوضاعه لئلا تختلف، ويروضها على أحكامه وأخلاقه وآدابه لتتأثر به، ولا يروضه على أهوائها لئلا توثّر فيه، وغايته إيثار رضى الدين الحق على رضاها، وبذلك تتم غاية الإسلام في المسلمين، ويتحقق كمال المسلمين بالإسلام، ولهذا أضيف كل واحد من الثلاثة إلى الجهة التي يجب عليه إرضاؤها، وكأن في تلقيب كل واحد بلقبه الخاص به اشعارًا له بالجهة التي يفرض عليه اللقب اعتبارها. وفي ظني أنه لو لم يكن المؤمنون في عهد عمر- رضي الله عنه- مظهرًا للإيمان الحقيقي، ولم تكن أقوالهم وأفعالهم تمثيلًا صحيحًا لحقائقه حتى كأنهما شيء واحد، لما قالوا "أمير المؤمنين" ولما قال لهم عمر: "أنتم المؤمنون وأنا أميركم"، وهل كان المؤمنون في زمن عمر كمؤمني اليوم؟

وإذا استقام هذا فما قولكم- يرحمكم الله- في شيخ الإسلام صاحب الفتوى في قراءة القرآن؟ قولوا ما شئتم، فإنني لا أدعوه بعد اليوم إلا شيخ المسلمين في غير ظلم ولا تحيّز،

<<  <  ج: ص:  >  >>