للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

طائل. ثم وردت من المشرق على تونس، وعرض لي من أول يوم ما زهدني في الشيخ، فقد حملني بعض أصدقائه من المشرق أمانة كلامية أبلغته إياها بواسطة لمكان العجلة. وفهمت من جوابه ما دلّني على مقدار الوفاء في الرجل ... وعلى شيء آخر لا أسمّيه. ثم عرفت الشيخ بخلصائه وخواص تلامذته أكثر مما عرفته بشخصه، ومن هؤلاء من أعتقد سداده وأحترم رأيه ولا أتهم ذوقه في تحديد القيم العلمية، فعرفت منهم ومن القليل الذي قرأته للشيخ من الآثار، أنه على جانب من استقلال الفكر، وحيوية التفكير وأنه واسع الاطلاع، ممتع المذاكرة، يقظ البديهة، ملمّ بأحوال زمانه، يرجع منه جليسه إلى ذهن كيس، وطبع مرتاض على الآداب المدوّنة، ويرجع منه مذاكره في أحوال المسلمين إلى ذاكرة واعية لشؤونهم وشعور بآلامهم وآمالهم وعلم دقيق بأمراضهم الاجتماعية والدينية.

وهل أنبئكم بمقياس آخر غريب من مقاييسي الخاصة في وزن الرجل؟

كنت قرأت- وأنا بالمدينة المنوّرة- تفسير المرزوقي لديوان الحماسة، وهو تفسير أي تفسير!

ولما دخلت الشام بحثت عن نسخة منه فلم أظفر بها، فذكرته في مجالس الأدباء، ونوّهت بمكانته وشوّقتهم إليه وتعاهدنا على أن ننسخه إذا ظفرنا به، ونروّجه حتى يقيّض الله له من يطبعه.

ولما قدمت إلى تونس مصرًّا على ذلك العهد، سألت عن الكتاب فقيل لي إنه موجود، لإنه مستعار عند "الشيخ الطاهر بن عاشور"، وإنه يكاد يحتكره احتكارًا. فكان هذا الخبر (بمجرده) مزيدًا في قيمة الرجل الأدبية عندي لأن حسن اختيار الكتب أول عوامل الإصلاح في نفس العالم.

هذه معرفتي بالرجل من جهته العلمية، ولولا هذه المعرفة لما أبهت لفتواه الأخيرة في قراءة القرآن على الأموات، ولعددتها كما هي في الواقع من ذلك النوع الرخيص الذي لا صلة فيه بين المسألة ودليلها. وقد امتلأت المجلّدات بالألوف من هذا النوع فماذا عسى أن تقلد فيه واحدة؟

أما جهة الرجل العملية، فإنني أصرّح على رؤوس الأشهاد، والأسى يحزّ الفؤاد، ان أمل الأمّة خاب فيه من أول خطوة خطاها في حياته العملية، فالرجل بموجب قيمته العلمية لم يخلق لنفسه، بل نقول إنه لم يخلق للأمّة التونسية وحدها وإنما هو للأمّة الإسلامية كلها، وإن الأمّة الإسلامية لا تتشابك- على كثرة المفرّقات- إلا بهؤلاء العلماء الذين يجتمعون على استقلال الفكر واتحاد الوجهة. ولا تتلاقى في الدين- على كثرة القواطع- إلا على هذه المعاني السامية في نفوس هؤلاء العلماء، وهي معان تستمد قوّتها من (قال الله وقال رسوله).

<<  <  ج: ص:  >  >>