للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعلى قيادة بدنية مستنزفة قد تعرقت القوى تعرّقًا وامتصتها امتصاصًا وعمدت إلى مواقع الشعور من الأمّة فضربت عليها بالخدر والترقيد، وإلى منابع الرجولة فيها، فغورت قلبها ولم تستبق فيها من أسباب التفكير إلا ما يهيئُهَا للتسخير.

وقد اصطلحت تلك القيادة وهذه السيادة على كل ما يفسد الأمّة ويضعف روحها ويشلّ حيويتها من جهل وفقر وكل ما يلده الجهل والفقر من مفاسد وموبقات.

هل رأيت جسمًا اصطلحت عليه الأدواء والعلل وتآخت على هيكله حتى كأن بينها- على تباين أسبابها- رحمًا مبرورة؟

ذئاب من القادة تتخطف، وصوالجة من السادة تتلقف، أفيبقى على هذين باقية من أمّة أو بقية من كائن؟ اللهم لا.

وآخر ما فتحت عليه عينها سياسة مضطربة الجوانب، مقلقة الركائب، لا يقرّ لها قرار إلا على المنشور "والقرار"، ولا تبنى أبياتها إلا على الوتد المفروق، والقاعدة ذات الشذوذات والفروق، والأسباب الخفية المتقلبة مع الغروب والشروق.

إن أمّة تفتح عينها على مثل هذا وتشعر بعواقبه ومصايره، ثم لا تموت من شدة الفزع والهول لأمّة ممدودة أسباب البقاء متراخية حبال العمر، جزيلة الحظ من الحياة وكذلك تكون الأمّة الجزائرية إن شاء الله.

بلى، وإن سنن الله في الأمم غير سننه في الأفراد {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}. دهش هؤلاء القادة الروحانيون لهذه الحالة المفاجئة التي ظهرت على الأمّة الجزائرية وعدّوها غريبة، واعتبروها نذير شؤم على سلطانهم الوهمي ومخيلة اضمحلال لقوّتهم الكاذبة. وأقبلوا على الأمّة يهدّئونها كما يهدّأ الصبي، يحاولون المحال من ردّها إلى النوم الذي نفضته جفونها والمهاد الذي جافته جنوبها. وأنّى يستطيب المهاد، أو يعاود النوم من لفحته الشمس المهجرة وفاتته الركبان المبكرة واستشعر التخلف فاعتزم اللحاق، هذا ما لا يكون.

ولما استيأس القادة وكذّبهم الأمل، كرّوا على الأصوات التي أيقظت الأمّة والنذر التي أهابت بها إلى الانتباه يوسعونها لعنًا وسبًّا، ويصبّون الشتم والقذف عليها صبًّا، ويبذلون الوسع في إخماد نأمتها وإخفات أصواتها، ولكن صدق عليهم المثل "أوسعتُهم سبًّا وراحوا بالإبل".

ووجم السادة لهذه الحالة وعدّوها مريبة، وامتدت ظنونهم السيئة بها إلى غير حدّ، ينتحلون الأسباب، ويخترعون العلل ويبتكرون من الوسائل ما يعيد النائم إلى نومه. ولكن هيهات للسيل إذا أتى أتيه أن يقف قبل أن يمدّ مدّه، ويبلغ حدّه.

<<  <  ج: ص:  >  >>