للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهما يومان لهما ما بينهما وما بعدهما، ومحال أن يرتكب هذا الجرم شخص يشعر بما تشعر به الأمة في هذه الأيام، إذًا فالقاتل ليس من الأمة إما حقيقة وإما حكمًا، وإذن فَهُوَ عدو للأمة يريد هو أو يريد من حرّكه للقتل أن يكدّر عليها صفوها وينغّص عليها سرورها، ولعلّ له من وراء ذلك مآرب أخرى أرادها وأدار الجريمة عليها، ولم يكن موضع الغرابة عندنا في ذلك اليوم قاتلًا ومقتولًا فهذا أمر اعتيادي يقع مثله في كثير من الأيام، ولكن موضع الغرابة أن يكون المقتول فلانًا وأن يكون قتله في ذلك اليوم وفي تلك الحصة التي هي منتصف الساعة العاشرة والاجتماع لم ينفضّ بعد.

شممنا رائحة الكيد من تلك اللحظة، ثم قرأنا في بعض الخطب والمقالات جملًا فيها دس وفيها تحريش، وفيها إشارات مبهمة فوكلنا الأمر إلى الله الحق، وانتظرنا التحقيق العدلي وبدأت الألسنة تهرف، والأقلام ترجف، والتحقيق يدور في طريق طامس إلى أن صدر الأمر بتفتيش نادي الترقّي وإدارة جمعية العلماء وإدارة جريدة البصائر، وعقب ذلك اعتقال الأستاذ الشيخ الطيب العقبي.

لم نندهش للتفتيش لعلمنا بنتائجه، ويقيننا أنه شيء اقتضته الاجراءات العدلية، وإنما أخذناه دليلًا مجسمًا على أن الحادثة رواية محبوكة الأطراف، وبعد التفتيش والختم وقع اعتقال الأستاذ العقبي فتجلّت المكيدة وتمّ تمثيل دورها الثاني في جو يدعو إلى الاستفزاز: الجمهور محتشد تتخلله قوات البوليس السري والعلني ومن ورائه الحرس المدني وقوات السينيقال (١) بمعداتها، وهذا المظهر كله يجمعه قولك: جذوة وريح.

وكيف لا يؤثر هذا المنظر في نفوس ترى، مع احترامها للأجراءات العدلية، ان من الحكمة الوصول إلى غايتها بغير هذه الصورة وعلى غير هذا الوجه؟

كانت النفوس ثائرة، ولكن الله لطف فكانت القيادة للعقل لا للعاطفة، وكانت الجماهير المحتشدة عند حسن الظن بها، ومن خفي لطف الله أن كان الأستاذ الأكبر الشيخ (عبد الحميد بن باديس) رئيس جمعية العلماء حاضرًا ومعه الأستاذ (محمد خير الدين) وكاتب هذه الأسطر وجماعة من الأساتذة العاملين في الجمعية فتقدمنا إلى الجمهور الحاشد أن يتلقّى الصدمة بالصبر، وأن يقابل المكيدة بما يحبطها ففعل وانقاد، وبثثنا في الأحياء دعاة يدعون إلى الهدوء والسكينة فامتثل الناس، ومرّت أيام اعتقال الأستاذ المظلوم من دون أن يحدث فيها ما يكدّر الأمن أو يخلّ بالنظام، وكان هذا أول فشل للمكيدة ومدبّريها وردّهم الله بغيظهم لم يبلغوا أملًا والحمد لله.


١) الجنود السنغاليون المجندون في الجيش الفرنسي.

<<  <  ج: ص:  >  >>