للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كل ذلك أرادوا، وفيه فكّروا وقدروا، وعليه أداروا المكيدة من أولها، ولكن الله اللطيف أراد غير ما يريدون فحلّ ما عقدوا وأطفأ ما أوقدوا، وكانت النتيجة ما تقرأه بيانًا لعنوان المقال.

كان من آثار الحادثة برمّتها في الأمة الجزائرية أن علّمتها كيف تصبر في الشدائد، وكيف تقضي على كيد الكائدين بالصمت والسكينة، وعلّمتها أن أعداءها لا يقفون في مضارتها عند حد، وعلّمتها أن لا تعتمد في النهوض على من لا يرضى لها أن تنهض وأن لا تستند في حياتها إلى من لا يقنع منها إلّا بالموت وأن لا تسأل البقاء ممن يسعى في افنائها، وأوقفتها على نوع من الأسلحة التي يحاربها بها أعداؤها وأرتها كيف يستعمل هذا السلاح فلم تعد تأبه له ولا للمتسلّح به، وكشف لها هذا الدرس البليغ عن جانب خفي طالما تعب الناصحون في بيانه، وهو ان هذه الأمة تشارك في مضاربة بلا ربح، وتقاد في ليل بلا صبح، وتضطرب بين أهواء متعاصية عن الكبح، وانها تحيا في القرن العشرين بمؤثرات القرون الوسطى، وتُساس في عصر العلم والنور بصور من سياسة عصور الجاهلية المظلمة، وانها تقات بالتضليل والتخذيل والتجهيل والتعليل، فإذا استبانت منهجًا أو حنت إلى ألفة أو صبت إلى علم أو طلبت حقيقة، ردّت إلى عتمة الليل بعنف ولكنه قانوني، وظلم ولكنه عدلي، واستبداد ولكنه شوروي، وكيد ولكنه نظامي ...

كل هذا فهمته الأمة وفهمت معه أن لا ثقة إلا بالله ثم بالحق الذي جعله نظامًا للوجود، وأن لا اعتماد إلا على الله ثم على نفسها، وأن لا خوف إلا من الله ثم مما اجترحت الأيدي.

وهذا ما أملاه هذا الدرس البليغ على الأمة، فكان لها عبرة وذكرى وكل ذلك ببركة هذه الحادثة فما أبرك هذه الحادثة على الأمة ...

وكان من آثار اعتقال الأستاذ العقبي، بموضعه من جمعية العلماء ومكانته فيها، أن جمع عليها القلوب ولفت إليها الأنظار وأسمى مكانتها في النفوس أضعافًا مضاعفة، وزاد نفوذها انتشارًا ومبادئها رسوخًا في جميع الأوساط، وتحقق لجميع الطبقات في الأمة أن هذه الجمعية قامت على أساس من الحق، وعملت للحق، وأوذيت في سبيل الله والحق، وأن قيامها بالحق هو الذي ألّب عليها الأعداء، وجلب لها الأذى والبلاء، وان هذه الحادثة المدهشة نتيجة حقد متأصّل عليها ويأس مرير من القضاء عليها بغير هذا النوع من الكيد، وان سمو مبدئها ونبل غايتها هما السبب الأكبر في نصب العراقيل لها، وبث الأشراك من حولها، وانها لو لم تكن على الحق لصافاها المبطلون ومادوها حبل الولاء، وانها- وقد ظلمت في هذه الحادثة ظلمًا بيّنًا مكشوفا عرفه حتى البله- مظلومة في كل ما مرّ من أدوار تاريخها، وان رجالها لا يعملون

<<  <  ج: ص:  >  >>