للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تفاوتت الأمم على اختلاف الأطوار والأجيال في فهم هذه الحقيقة أولا والعمل بها ثانيا، وكان اختلافهم يرجع إلى سببين ذهبا بفريقين من الناس إلى سوء المصير فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل.

السبب الأول نزعة الاستئثار الطبيعية التي نشأ عنها الاستبداد الفردي والشعبي، والاستبداد شر ما سيست به الأمم وهو الذي طوح الإنسانية في مهاوي الشقاء. وقد مضى الاستبداد غير مأسوف عليه ولكنه أنتج في العالم نتاج سوء وأثمر ثمرا مرا، ذلك النتاج هو ثاني السببين. ذلك النتاج هو الإباحية الخاطئة الكاذبة التي أصبحت تتهدد الإنسانية بما هو شر من الاستبداد، ذلك النتاج الذي قرر مزدك الفارسي تعاليمه الفاسدة، فكان كمن حلل السم أو نفث الغازات في الهواء والماء العنصرين المقومين للحياة، فلا كان مزدك ولا كانت تعاليمه.

والسبب الحقيقي لهذا البلاء المتناسل هو تحكيم الهوى على العقل. وأهواء النفوس إذا غلبت غطت على الحقائق وأحالت النور ظلاما واليقين وهما والحق باطلا.

ليس من غرضنا أن نقض على مسامعكم تاريخ هذه المسألة وتفريعاتها وأطوارها وقسط كل أمة منها، فذلك ما لا يسعه المقام.

وإنما نشير إلى الطور الذي وصلت إليه المسألة في وقتنا الحاضر وما يتصل به لنبني عليه غرضنا من تأسيس الجمعيات. والذي تسمعونه مني إنما هو حقائق تاريخية معجونة بفكري الخاص وأرجو أن أكون موفقا في الرأي.

لا ننكر أن مسألة تآخي البشر لم تأخذ حقها من التطبيق تمام الأخذ إلى الآن ولم يعمل بمقتضياتها التي أشرنا إليها تمام العمل إلى الآن. وإنما يمتاز عصرنا الحاضر بترقي العلوم والصنائع والتوسع في متممات العمران وكمالياته والاطلاع على حقائق الكون ومخبآته، واستثمار مواهب الطبيعة وخيراتها، ونشأ عن ذلك ترق في الأفكار وشعور عام لجميع الطبقات على تفاوت بمقدار التعلق بالعلوم، ونشأ عن ذلك التفاوت رجوع إلى نزعة الاستئثار والامتياز فنشأ عن ذلك الإكباب على الماديات والمسابقة في ميدانها. فنشأ عن ذلك شعور المقصر بقصوره، فنشأ عن ذلك تدافع واختلاف في المصالح، فنشأ عن ذلك احتكاك واتصال بين الأمم المتباعدة يسرته سهولة المواصلات التي هي من ثمرات العلم.

ونشأ عن ذلك كله وعن هذه المصارعات الاجتماعية شعور آخر بضرورة تآخي البشر وآل الخلاف إلى وفاق والتباعد إلى تقرب والفوضى إلى هدوء وسلام.

<<  <  ج: ص:  >  >>