للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا يتسع وقته لذلك، لأن الهبّة التعليمية كانت في عنفوانها، ورغبة الأمّة في درس القرآن والحديث كانت متأججة مضطرمة، فكان الكاتب يرى أن من الإجرام تبريد تلك الفورة بالتقصير وإنفاق الوقت في غير التعليم. وكان- رحمه الله- يشتد عليّ في اللوم ويصمي بالتقصير في حق "البصائر"، فإذا زارني بتلمسان ورأى الدروس تنتظم الساعات وسمع درس التفسير بالليل ودرس الموطأ في الصباح الباكر ورأى إقبال الجماهير وتأثّرهم، ابتهج ابتهاج الظافر، ونسي "البصائر" والحديث عنها. واسترحت من لومه وعتابه.

وأذكر أنه صادف في ليلة من تلك الليالي الزاهرة بحياته درسًا في دار الحديث من تلمسان في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، فقال لي- رحمه الله- بعد تمام الدرس ما معناه: (إن هذا الدرس وحده كاف لإحياء أمة مستعدة. ولقد زادني هذا الدرس إيمانًا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في القرآن: "لا تنقضي عجائبه". وإن ما سمعته منك في معنى اتخاذ البيوت قبلة هو ما حوم عليه علماء الاجتماع في مبدإ تكوين الوحدة الاجتماعية للأمم. وأين هداية التجارب من هداية كلام الله؟ ولوددت لو أن المسلمين كلهم يسمعون مثل هذه الدروس). فقلت ممازحًا له: و"البصائر" ... فقال لي: ما عليك بعد هذا الجهد أن لا تكتب في البصائر. ولو أن التلاميذ أوتوا حظًا من النشاط والتوفيق لما ضاعت هذه الدروس ولنشرت كما هي ففزنا بالحسنيين. فقلت له: عزائي عن هذا أن دروسك لم تكتب وقد شارفت ختم القرآن وأين هذا الوشل من ذلك البحر؟ وما قلت له هذا مجاملًا ولا متواضعًا. وما كان مبنى الأمر بيننا- ما عشنا- على الرياء والمجاملة: رحمه الله رحمه الله. فعودة "البصائر" إلى الظهور بهذه الديباجة وبهذا الأسلوب أمل من آمال الفقيد قد تحقّق، ودين له على جمعية العلماء وفت به في وقته. وما أرهق الدائن ولا مطل الغريم، ولو عاش- رحمه الله- لقرّ بهذا العمل عينا. فليكن هذا العمل هو زين هذه الذكرى وجمالها وشارتها الممتازة ووشيها الفني.

ثم هات الحديث عن المعهد. إنه- والله- الغرة اللائحة في هذه الذكرى. فقد كان من آمال المرحوم أن تكوّن جمعية العلماء في الجزائر كلية- بالمعنى الحقيقي للفظ الكلية- وكان يرى أن هذه الكلية هي العلة الغائية لوجود جمعية العلماء وهي الثمرة للتعليم الذي تجهد فيه وتلاقي في سبيله العنت والنصب، وكنا معشر إخوانه نشاركه في الأمنية والعمل. والغاية من الكلية، وهي أن تخرّج للأمّة علماء اختصاصيين في فهم الدين على حقيقته، وفي فقه أسرار الشريعة مأخوذة من كتاب الله والصحيح من سنّة نبيّه، وفي طرائق الدعوة والإرشاد التي بُني عليها الإسلام، وفي الخطابة التي هي سلاح تلك الدعوة، وفي الأخلاق والآداب الإسلامية التي هي لباب الدين، وفي فقه أسرار اللسان العربي وآدابه، مع المشاركة في علوم الحياة التي هي سلاح العصر، بحيث يخرج المتخرّج منها كامل الأدوات.

<<  <  ج: ص:  >  >>