للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الوقائع المشرفة في تاريخ الإسلام والمسلمين الطويل، فلقد حيّرت المؤرّخين وملأت الأسفار بأسماء أبطالها القليلين، وذكر مآثرهم، وتعداد مناقبهم، وذكر عددهم الحربية المتواضعة، والإشادة بالمكان- كل ميزته أنه به قليل ماء، ما كان يوم بدر إلا يومًا من أيام الله في الإسلام- إذن، وهل يحسن التذكير إلا بأيام الله؟ ولقد قال الله تعالى لموسى عليه السلام: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} ذكر موسى بني إسرائيل بأيام الله، وذكرهم بآلائه عليهم، ولما لم ينفعهم التذكير، وخالفوا أوامر الله وكثيرًا ما قتلوا أنبياءهم بغير حق، حقّت عليهم كلمة الله، وحاق بهم العذاب وهم لا يشعرون، فكان التيه الذي ظلّوا فيه معذبين أربعين سنة، كانت كافية لأن تنهض جيلًا من الشباب عزيزًا، شديد المراس، يأبى الضيم، ولا يرضى المهانة، وكافية لأن تذهب جيلًا من العجزة وشيوخ الهمم الأذلاء الذين درجوا في ساحات الذل، وشبوا وشابوا تحت كلاكل الاستعباد والسخرة المقيتة، وتلك حكمة الله في تذكير الأمم بأيام الله، لتتعظ، وترجع إلى الله، وتتدرّع بالعبر والمثلات، وحسن الاقتداء.

نعم، إن أيام النكبات عند العقلاء أعظم من أيام الرخاء والهناء، وأيام البلاء في حياة المسلمين أزهى أيامهم، وأجدى عليهم نفعًا، وأبقى ذكرًا، وأخلد أثرًا، والمؤرّخون الحقيقيون هم الذين يعنون بذكر جانب الاعتبار من الأحداث التاريخية الكبرى- لا أولئك الذين يسردون الوقائع سردًا- ليدرس الناس أسباب سقوط الدول، وأسباب عزّتها، وتكون مؤلفاتهم خير معوان للأجيال المقبلة لتتنكّب طرق الشر والشقاء، وتسلك مسالك الرشد والهدى، ولا أخال حديثنا الليلة يتناول غير ذلك الجانب الأهم من الوقائع.

إن يوم بدر، ويوم أحد ليعدّان- باعتبار آثارهما- مِن غُرّ أيامنا التاريخية، فلقد كان الأول نصرًا، وكان الثاني كسرًا، أفكان يوم أحد شرًا على المسلمين، وهم يعلمون ما سبب الهزيمة؟

إن القيم المعنوية في الرجال، من زكاء النفس، وعلوّ الهمّة، وإطاعة أوامر الله، هو الجانب المعتبر في حياة الرجال، وذلك ما أتاح النصر للمسلمين يوم بدر وهم قلة، وإن الطمع في الأسلاب الحقيرة، ومخالفة أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - هما السبب في هزيمة المسلمين يوم أحد، وهم كثرة، وأن القوة المعنوية التي تسلّح بها رجال بدر هي التي رجّحت كفّتهم، ولئن استشهد منهم قليل فقد انتصر الباقي على عدو قوي البأس، محارب بطل، يفوقهم عددًا وعدة، وشتّان بين من يسترخص الموت من أجل الحياة، وبين من يحاولها لإرضاء الشهوات، شهوات الغلب، ومحبة السمعة الزائفة، ومحاولة تحدي سنن الله وإرادته الرامية للأخذ بيد المستضعف في الأرض، وهو ما هزم المشركين يوم بدر وتركهم عظة وذكرى إلى يوم الدين، وكذلكم كانت واقعة أحد درسًا قاسيًا للمسلمين عرفوا به مصدر الداء، داء الغرور، ذلك المرض الذي ما أصيب به فرد أو جماعة إلا أهلكه، فلا يغترن أحد بنفسه،

<<  <  ج: ص:  >  >>