للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثم جاوز البحر سنة ٣٦ ميلادية، بموافقة من الأستاذ الرَّئِيسُ ومني ليرد على الضالين من أبناء قومه هداية الإسلام، وليرد على الناشئين هناك من أبنائهم ما أضاعه الوسط من دين ولغة، وليزرع في قلوب الآباء والأبناء معًا حب الدين والجنس واللغة والوطن، وليعيد إلى الجزائر- بذلك كله- قلوبًا تنكرت لها، وأفئدة هوت إلى غيرها، وغراسًا أظمأه الاستعمار في مغارسه فالتمس الريّ والنماء في غيرها. فتتبعهم الفضيل في مطارح اغترابهم وجمع شملهم على الدين، وقلوبهم على التعارف والأخوة، وجمع أبناءهم على تعلم العربية، وأسس في باريز وضواحيها بضعة عشر ناديًا، عمرها هو ورفاقه الذين أمدته بهم جمعية العلماء بدروس التذكير للآباء والتعليم للأبناء والمحاضرات الجامعة في الأخلاق والحياة، ونجح الفضيل في أعماله كلها نجاحًا عاد على المسلمين في فرنسا بالخير والبركة وعاد على جمعية العلماء بالسمعة العطرة والدعاية الطيبة، وكان في تلك المدة كلها متصل الأسباب بجمعية العلماء مراسلة واستمدادًا وإشارة واستشارة، وقد رجع في أثنائها إلى الجزائر، كلما انعقد اجتماع أو حزب أمر، وما زلت أذكر حضوره في اجتماع الجمعية صيف سنة ٣٧ وحضوره على إثر ذلك افتتاح مدرسة "دار الحديث" بمدينة تلمسان، وخطبته، في ذلك الحشد الذي ضم عشرين ألفًا بعد سماعه لقصيدة الشاعر محمد العيد، وحملته الجارفة على التجنس والمتجنسين.

وفي سنة ٣٨ فيما أذكر هاجر إلى مصر مستزيدًا من العلم والتجارب، مستجمعًا قوّته للعمل في ميدان أوسع وجو أصفى: وكانت له المواقف المشهودة والرحلات الموفقة إلى الأقطار العربية، وكان في تلك المدة كلها متصلًا بنا على قدر ما تسمح به ظروف الحرب، إلى أن وقعت حادثة اليمن، وشاءت الأقدار أن يكون ضيفًا عليها، وأن تكون في أول اتصالاته بها، وشاءت ألْسِنَة الشر وطبائع السوء أن تحشره في زمرة المتهمين بتدبيرها، وشاءت فئات من مرضى الحسد وصرعى الغل والحقد أن يتخذوا من تلك التهمة المتهافتة الشواهد ذريعة للنيل من سمعته والقدح في كرامته وشرفه، ثلة من المشارقة، وقليل من المغاربة، وكنا سمعنا أخبار الحادثة في حينها وخبر الاتهام، فلم نستطع- مع جزمنا بكذبه- دفعه بالقول ولا بالفعل، وسمعنا بعد ذلك ما لاكه أولئك الحسدة ورددوه، فلم نشأ أن نوسع فريتهم نقضًا ودحضًا لعلمنا اليقين بأسباب الحادثة، وعلل الاتهام، وبالمحرك لهؤلاء الناعقين، ولمعرفتنا بالفضيل وظواهره وخوافيه، وادّخرنا رأينا وقوّتنا ودفاعنا إلى الفرص المناسبة.

ولكن الوفاء توأم الصدق، والحق يفجأ أنصاره بالعجائب، فقد أراد الله أن يلجم المتخرصين وأن يجر ألسنتهم بوفيين من اخوان الصدق وأخدان الحق، وأن تكون "البصائر" هي مجلى هذه الحقيقة، فرماهم بالأمس بكلمة الأستاذ محيي الدين القليبي التي كشف فيها

<<  <  ج: ص:  >  >>