للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كانت حركة رئيس اللجنة في هذه المرّة بمعنى آخر من معاني الحركة في اللغة وهو الاضطراب وعدم الاستقرار على رأي، فقد أعلن في ثلاثة أيام إعلانات متناقضة في قضية واحدة: أعلن في الجرائد الفرنسية أن شعبان ثبت بالاثنين، بعد أن لم يبق من شعبان إلا ثلاثة أيام، فأين كان حضرة الرَّئِيسُ؟ أم أين كان شهر شعبان؟ أم انقطعت الصلة بين الموجود والزمان؟ أم أن حضرة الرَّئِيسُ ليس بـ"موجود"؟ وأذاع أنه سيتصل بالمغرب وتونس، وأنه سيعمل برؤية الأقطار الإسلامية، ثم أعلن في الجرائد أنه لا يعتمد إلا على رؤية القطر الجزائري على أيدي قضاته ... وأنه سيصعد إلى "بوزريعة" ليستقبل هلال رمضان بنفسه.

وذهب الفضوليون مذاهب شتى في اقدام رئيس اللجنة على ذكر الأقطار الإسلامية فقال قوم: إنها شجاعة، وقال قوم: إنها رجوع إلى الحق، وقال العقلاء والعارفون: إنها نزوة عابرة، وفلتة عارضة، اعترت صاحبها في فترة الوحي، فلما هبط الوحي نسخها بما يناقضها، والوحي الحقيقي الذي لا يلقى فيه الشيطان، هو ما جاء في البلاغ الأخير، وفحواه: (إن رمضان الجزائري، لا يثبت إلا برؤية جزائرية يعدلها قضاة جزائريون)، وإنها لنزعة "استقلالية" تشكر عليها اللجنة ورئيسها، لو بقي في الجزائر من يشكر الإحسان، ولو رزق الله الوطن بمن يفهم هذه المنازع الدقيقة لأنزل أصحابها منزلة الأئمة لدعاة الاستقلال، لأن مغزى هذه النزعة بدء الاستقلال من السماء ... ونسخ كلمة "فصاعدًا" المبتذلة بكلمة "فهابطًا" ... ولكن أين من يفهم؟

يُستنتج من هذا الاضطراب المتدلّي أنه لو حبس رمضان ركائبه يومين آخرين واتسع الوقت لبلاغ آخر لكان نصّه قريبًا من هذه الصورة: (تعلن لجنة الأهلة أنها لا تعتمد إلا على الرؤية التي تثبت في العاصمة وأحوازها المحدودة بالحراش شرقًا، وبوزريعة والأبيار غربًا، والمرسى شمالًا، والجنوب معروف، مع ملاحظة أن من رآه من البحر لا يُعدّ في حكم المرسى، وأن ابن عكنون لا يدخل في الأحواز).

يشهد لصدق هذه الصورة تتبّع أحوال هذه اللجنة وأعمالها، فكلها تدلّ على أنها لا صلة لها بالقطر ولا بقضاته، وأن همها كله منحصر في العاصمة، كأنها تريد أن تجعل منها دائرة نفوذ خاصة، أو ميدان تجربة لقوّتها، لذلك نراها تعتني بها كثيرًا، ولا تكتفي بإعلان رأيها في الصوم والإفطار في الراديو، بل يتفقد بعض أعضائها المقاهي والمجتمعات ليروا بأعينهم ثمرة نفوذهم، وقد شاهد الناس منهم يوم الثلاثاء (أول رمضان) ما يقضي بالعجب، وشاهدوا في ذلك اليوم إمامًا من أنصار اللجنة متنكرًا في هيئة "باش آغا"، وطالما التبس على الناس بذلك، وقد ظلّ جالسًا في مقهى بحي "العقيبة" ساعات وهو يحتسي القهوة أمام المفطرين والصائمين، وكأنه يحرس شعبان أن تنتهك حرماته ... وإننا لا نعجب من هذا ما

<<  <  ج: ص:  >  >>