للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلّا بعد تنقية الأرض وتمهيدها وإثارتها، فلما تم لنا من ذلك شيء في بعض الجهات ووجدت القابلية- انتقلنا إلى المرحلة الثانية، وهي التعليم، بعزيمة المؤمن المنتصر المقدر لمواقع الخطى، المستفيد من الصواب والخطأ، ولم يبق لنا من أعمال الطور الأول إلّا مواقف حراسة ودفاع لئلا يعاود الباطل كرته، على نحو من دفاع الجندي الظافر في أطراف الميدان.

كان الطور الأول طور هدم ورفع أنقاض، وكان الطور الثاني طور بناء وتشييد ... بناء للعقول والأرواح والنفوس بمواد العلم والحكمة والفضيلة وتشييد للحياة الفاضلة الحافلة بالسعادة والنضرة، المبنية على المثل العليا من الرجولة والبطولة والنبوغ، ولا تذكروا مع هذا تشييد المباني، فهي في المحل الأول وهو في المحل الثاني، وأين بناء الجدران، من بناء مقومات الإنسان؟ إن في بناء العقول والأرواح والنفوس والأذهان لمحاكاة لصنع الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وإن في فتق لسانه على البيان المنمق، وتشقيقه على الكلام المشقق، لتحقيقًا لحكمة الذي خلق الإنسان علمه البيان، وأين يقع ذلك من هذا؟

استغرق هذا الطور سبع سنوات تخللتها نكسة الحرب وتعطيل التعليم في سنوات منها، وكان الربح الذي أفاءته علينا سنوات التعطيل أربى من الخسارة، فقد تنبهت مشاعر الأمة في حقبة التعطيل، وكمل استعدادها، فما كادت الحوائل تزول حتى تأججت الرغبات المكبوتة، وانفجر الاستعداد الكامن، وأقبلت الأمة تبني المدارس وتعلي، سائرة على هدي جمعية العلماء، وجارينا ذلك التيار على ما في مجاراته من أخطار، وفتحت عشرات المدارس فيما بين سنة ١٩٤٣ وسنة ١٩٤٥، وجاءت حوادث ٨ ماي فأعادت النكسة وشلت الهمم والعزائم، ورمت الأمة بالداء العياء الذي ما زالت تعاني عقابيله، وهو الخوف والرهبة.

وجاء الطور الثالث يعدو سابقًا في صيف ١٩٤٦ متسمًا بالحزم والتصميم والنظام والترامي إلى الكمال، والرمي إلى هدف واحد، والإيمان الجازم بالغاية وجمع القوى المتفرقة في سبيل الوصول إليها، وإن هذا الطور كيوم من أيام الله في جمعيتكم، لا يقدر بالساعات، وإنما هو هيكل من الأعمال متعدد الأجزاء لا يتم بتمام جزء منها، وإنما يتم بتمام جميعها، وقد استعددنا للقيام بإتمام هذا الهيكل، وصاحبنا من توفيق الله ما شهدنا آثاره، فلم ننقطع يومًا عن الأعمال المتممة لهذا الهيكل في السنوات الخمس، وإنما انقطعنا عن شيء عرفي، قرره الاصطلاح والقانون، وسمياه (الاجتماع العام) فلم يُفَوِّتْ علينا هذا الانقطاع إلّا اجتماعًا محدودًا في مكان محدود في ساعات محدودة، تلقى فيه كلمات معدودة، وأبخس بهذا كله فائتًا في جنب ما تم وحصل في هذه السنوات الخمس من الأعمال الإيجابية الباهرة التي لولا عون الله وتيسيره، وسر الإخلاص لما تم بعضها في

<<  <  ج: ص:  >  >>