للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن في الإسلام شيئًا لا يعرفه الاستعمار ولا يفقه له معنى لأنه لم يتصف به ولا مرة، وهذا الشيء هو "التوبة": فالمسلم إذا تاب من كبيرة يعتقد أن من كمال التوبة أن يُكثر من الطاعات ومنها الحج، وعلى هذا فالمذنبون هم أحق الناس بالحج.

ثم ما معنى الإجرام السياسي؟ إنه حبّ الوطن، والعمل على نفع أبنائه، وبغض الاستعمار، والعمل لمقاومته: فهذا هو الإجرام السياسي الذي تعتبره الحكومة الجزائرية مانعًا من أداء واجب ديني، ولا ندري لماذا لم تجعله مانعًا من أداء الصلاة والصيام؛ فإن كانت تعتبره في الحج خوفًا من تشهير الحاج السياسي بسياستها والتنديد بها بين المسلمين، فقد أخطأت التقدير، فإنّ مسلمي الشرق لا يحتاجون إلى من يندّد بسياسة فرنسا وظلمها ولا يحتاجون إلى من يكشف لهم عن مساوئ الاستعمار الفرنسي؛ فهم يعلمون من ذلك كله فوق ما نعلم. لأن من ذاقه منهم ذاق السمّ الزّعاف، ومن سمع عنه سمع ما يصمّ الآذان ويسيل العبرات.

إننا مع الاستعمار على طرفي نقيض في تفسير كلمة "الجرم"، فنحن نعد الخمر والزنا من أعظم الجرائم، وهو يعدّهما من المباحات ومن موارد الاستغلال الغزيرة، ولا يعدهما قادحين في سيرة ولا منصب، حتى في مناصبنا الدينية الشريفة كالقضاء والإمامة، ونحن نعد السياسة عملًا طبيعيًّا معقولًا ووسيلة من وسائل خدمة الوطني لوطنه ولبني جنسه، وهو يعدّه كذلك بالنسبة إلى الأوروبي السيّد، أما بالنسبة إلى المسلم فهي جرم يمنع صاحبه من الحج، وما زال هذا الخلاف بيننا وبين الاستعمار في معنى لفظة "الجرم" يتطلب حكمًا ولا يجده.

وزاد الحمأة امتدادًا ما صحب حجّ هذه السنة من فوضى في الإجراءات واختلاف بين الإدارات، فهذه تعطي وتلك تمنع، وهذه توسّع وتلك تضيّق، وهذه تنقض ما أبرمته تلك، والحاج المسكين بين هذه الإدارات المختلفة التي كأنها إمارات مستقلّة- كالكرة تتقاذفها اللجج، وتتلقفها الصوالجة؛ وكل كاتب في إدارة، وكل مكلف بعمل مما يتعلّق بالحجاج قلّ أو جلّ، فهو حاكم بأمره، يعد ويمني، أو يتوعّد ويتشدّد. والإجراءات تحبو من مكتب إلى مكتب، ومصالح الطالبين متعطلة، وأوقاتهم ضائعة، وآمالهم في الحج معلّقة بين الرجاء واليأس. حتى ظنّوا أن ليست هنا حكومة مسيطرة ولا نظام متّبع، ولا قانون نافذ؛ ونقول مؤكّدين: إن كثيرين منهم لم يستيقنوا، إلى ساعة السفر، أنهم مسافرون أو غير مسافرين- مع أن الرخص والنقد في جيوبهم وآثار التلقيح في جنوبهم- لكثرة ما سمعوا من الوعود المتناقضة مرّة بالإعطاء، ومرة بالحرمان، ولكثرة ما شاهدوا من الخلاف بين الإدارات العليا وبين الإدارات السفلى؛ وقد رأينا في بعض البلدان في الأيام الأخيرة رجالَ البوليس يبلغون أمرًا حكوميًّا صادرًا من دار العامل يقضي بإلغاء الترخيص لمن حجّوا في العام الماضي، ثم رأينا طائفة منهم استعادت رُخصها وسافرت بالفعل، لأنها عملت بقاعدة "العب كما يلعب صاحبك".

<<  <  ج: ص:  >  >>